الرابعة: «ربّ العالمين» وفق الرؤية العرفانيّة
لهذا الاسم الشريف منزلة عظيمة في الكتب السماويّة لاسيما القرآن المهيمن على جميعها، فهو من أُمّهات الأسماء المقدّسة، لأنّه يشير إلى حضرة الربوبيّة، وهي اسم للمرتبة المقتضية للأسماء التي تطلب الموجودات، فدخل تحتها العليم والسميع والبصير والقيّوم والمريد والملك وما أشبه ذلك، لأنّ كلّ واحد من هذه الأسماء والصفات يطلب ما يقع عليه، فالعليم يقتضي معلوماً، والقادر مقدوراً، والمريد مراداً، إلى غير ذلك، والأسماء التي تحت اسم الربّ هي الأسماء المشتركة بين الحقّ والخلق، والأسماء المختصّة بالخلق اختصاصاً تأثيريّاً.فمن القسم الأوّل (وهي المشتركة): العليم؛ فإنّ له وجهين: وجه يختصّ بالجناب الإلهي ومنه يُقال «يعلم نفسه»، ووجه ينظر إلى المخلوقات ومنه يُقال «يعلم غيره». ومن القسم الثاني الخالق ونحوه من الأسماء الفعليّة، فله وجه واحد، ومنه يُقال «خالق للموجودات» ولا يقال «خالق لنفسه» تعالى عن ذلك. وهذا القسم من الأسماء تحت اسمه الملك. ومنه يظهر الفرق بينه وبين الربّ.
وأمّا الفرق بين الربّ والرحمن فهو أنّ الرحمن عندهم اسم لمرتبة اختصّت بجميع الأوصاف العليّة الإلهيّة، سواء انفردت الذات به كالعظيم والفرد، أو حصل الاشتراك أو الاختصاص بالخلق كالقسمين المتقدّمين، فهو أكثر شمولاً من الربّ. ومن مرتبة الربوبيّة ينظر الرحمن إلى الموجودات.
ولمّا كان ارتباط الموجودات إلى الوجود الحقّ لا يكون ـ وفق هذه الرؤية ـ إلاّمن حيث تعيّناته تعالى ـ التي هي أسماؤه الحسنى ـ إذن فكلّ موجود مرتبط باسم من الأسماء الإلهيّة، سواء من جهة أنّه لم يتعيّن الحصّة الوجوديّة المضافة إليه حتّى صار بها موجوداً، أو من جهة أنّه لم يصل المدد الواصل ـ الذي به
صفحة 275
بقاؤه في الآن الثاني ـ إليه إلاّ بواسطة ذلك الاسم. والاسم «الله» ربّ جميع الموجودات من جهة جمعيّته، لكن إضافة ربوبيّته إلى غير الكمّل من حيث أسمائه وبواسطتها.قال الشيخ محيي الدِّين بن عربي في الفتوحات: «واعلم أنّه لمّا كان في قوّة الاسم (الله) بالوضع الأوّل كلّ اسم إلهيّ، بل كلّ اسم له أثر في الكون، يكون عن مسمّاه ناب مناب كلّ اسم لله تعالى. فإذا قال قائل (يا الله) فانظر إلى حالة القائل التي بعثته على هذا النداء، وانظر أيّ اسم إلهي يختصّ بتلك الحال، فذلك الاسم الخاصّ هو الذي يناديه هذا الداعي بقوله: «يا الله» لأنّ الاسم (الله) بالوضع الأوّل إنّما مسمّاه ذات الحقّ عينها التي بيدها ملكوت كلّ شيء، فلهذا ناب الاسم الدالّ عليها على الخصوص مناب كلّ اسم إلهي» (1).
وقال الكاشاني: «الربّ: اسم الحقّ عزّ وجلّ باعتبار إنشاء نسب الحقائق عنه تعالى وتقدّس، فإنّ كلّ حقيقة كونيّة إنّما ينسب إنشاؤها وتعيّنها عن حقيقة إلهيّة، فكلّ ما تعيّن في وجوده العيني وظهر في المراتب روحاً ومثالاً وحسّاً، فإنّما ذلك من اسم إلهيّ متعيّن بتلك الحقيقة الإلهيّة، بحيث ظهر تميّزها ووصفها، فكان ذلك الاسم ربّها، فلا تأخذ إلاّ منه ولا تعطي إلاّ به، ولا ترجع إلاّ إليه في توجّهاتها ودعواتها بالحال أو القال في جميع البواطن، ولا ترى إلاّ إيّاه» (2).
ــــــــــ
(1) الفتوحات المكّية، للشيخ الإمام محيي الدِّين محمّد بن علي بن محمّد الحاتمي المعروف بابن عربي، المتوفّى سنة 638هـ، ضبطه وصحّحه ووضع فهارسه: أحمد شمس الدِّين، منشورات: محمّد علي بيضون، دار الكتب العلميّة، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، 1420هـ : السفر الثاني والثلاثون، الباب 558 في معرفة الأسماء الحسنى، ج7 ص289 .
(2) لطائف الاعلام في إشارات أهل الإلهام، للشيخ العارف كمال الدين عبد الرزّاق الكاشاني، صحّحه وعلّق عليه: مجيد هادي زادة، الطبعة الأُولى، 1421هـ: ص278.