Rss Feed

  1. الخامسة: بحث عرفاني، في المظهر الأتمّ للربوبيّة المطلقة
    يعتقد أهل المعرفة أنّ الحقيقة المحمّديّة ـ وهي الصادر الأوّل ـ هي المظهر الأتمّ للربوبيّة المطلقة للحقّ تعالى. وبيان ذلك يستلزم الإشارة ـ ولو إجمالاً ـ إلى بعض الأسس التي قامت عليها أصول هذه المدرسة، منها:
    - إنّ لكلّ اسم من الأسماء الإلهيّة صورة في العلم الإلهي في مقام الواحديّة، تسمّى بالعين الثابتة.
    - وإنّ لكلّ اسم أيضاً صورة خارجيّة، تسمّى بالمظاهر والشؤون والتجلّيات.
    - وإنّ تلك الأسماء هي أرباب تلك المظاهر والشؤون وواسطة الفيض الإلهي بالنسبة إليها .
    - وإنّ الحقيقة المحمّديّة مظهر الاسم الجامع الإلهي وهو الله تعالى، وهو ربّ هذا المظهر الأتمّ، ومنه الفيض والاستمداد على جميع الأسماء الإلهيّة التي هي دون الاسم الأعظم الإلهي.
    في ضوء هذه الأسس، إذا كان الاسم الأعظم هو واسطة الفيض بالنسبة لجميع الأسماء الإلهيّة التي دونه في الصقع الربّاني، إذن فمظهره أيضاً يكون واسطة الفيض لمظاهر جميع الأسماء الإلهيّة .
    قال القيصري: «فاعلم أنّ تلك الحقيقة ـ أي المحمّديّة ـ هي التي تَرُبّ صور العالم كلّها بالربّ الظاهر فيها الذي هو ربّ الأرباب، لأنّها هي الظاهرة في تلك المظاهر كما مرّ، فبصورتها الخارجيّة المناسبة لصور العالم ـ التي هي مظهر الاسم الظاهر ـ تَربّ صور العالم، وبباطنها تَرُبّ باطن العالم، لأنّه صاحب الاسم الأعظم، وله الربوبيّة المطلقة، لذلك قال صلّى الله عليه وآله: «خصّصت بفاتحة الكتاب» وهي مصدّرة بقوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فجمع عوالم الأجسام والأرواح كلّها.

    صفحة 277
    وهذه الربوبيّة إنّما هي من جهة حقيقتها لا من جهة بشريّتها، فإنّها من تلك الجهة عبد مربوب محتاج إلى ربّها، كما نبّه سبحانه بهذه الجهة بقوله: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (الكهف: 110) ونبّه بالجهة الأُولى بقوله: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) (الأنفال: 17) فأسند رميه إلى الله.
    ولا تتصوّر هذه الربوبيّة إلاّ بإعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه، وإفاضة جميع ما يحتاج إليه العالم. وهذا المعنى لا يمكن إلاّ بالقدرة التامّة، والصفات الإلهيّة جميعها، فله كل الأسماء يتصرّف بها في هذا العالم حسب استعداداتهم» (1).
    وهذه هي الخلافة الأسمائيّة التي تحدّث عنها القرآن في قوله: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا) (البقرة: 31)، ولازمها أن يكون الخليفة حاكياً للمستخلف في جميع شؤونه الوجوديّة وآثاره وأحكامه وتدابيره بما هو مستخلف. وهذا ما صرّح به القيصري بقوله: «ولمّا كانت هذه الحقيقة مشتملة على الجهتين: الإلهيّة والعبوديّة، لا يصحّ لها ذلك أصالة بل تبعيّة، وهي الخلافة، فلها الإحياء والإماتة واللطف والقهر والرضا والسخط، وجميع الصفات ليتصرّف في العالم وفي نفسها وبشريّتها أيضاً لأنّها منه» (2).
    ومن أهمّ خصائص هذه الخلافة أنّها غير منقطعة أزلاً وأبداً، نزولاً وصعوداً؛ وذلك لأنّه لمّا كانت هذه الحقائق هي مظاهر الأسماء الإلهيّة، والأسماء الإلهيّة لا انقطاع لها، إذن فمظاهره أيضاً كذلك .
    قال القيصري: «فالقطب الذي عليه مدار أحكام العالم ـ وهو مركز دائرة الوجود من الأزل إلى الأبد ـ واحد باعتبار حكم الوحدة، وهو الحقيقة المحمّديّة صلّى الله عليه وآله وباعتبار حكم الكثرة متعدّد.
    ــــــــــ
    (1) شرح فصوص الحكم، الفصل التاسع من المقدّمات: ج1 ص145.
    (2) المصدر السابق: ج1 ص146.


    صفحة 278
    وقبل انقطاع النبوّة قد يكون القائم بالمرتبة القطبيّة نبيّاً ظاهراً كإبراهيم صلوات الله عليه، وقد يكون وليّاً خفيّاً كالخضر في زمان موسى عليه السلام قبل تحقّقه بمقام القطبيّة. وعند انقطاع النبوّة ـ أعني نبوّة التشريع ـ بإتمام دائرتها، وظهور الولاية من الباطن، انتقلت القطبيّة ـ أي مظهرية الاسم الأعظم ـ إلى الأولياء مطلقاً، فلا يزال في هذه المرتبة واحد منهم قائم في هذا المقام، لينحفظ به الترتيب والنظام، قال سبحانه: (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) (الرعد: 7) (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ) (فاطر: 24) كما قال في النبيّ صلّى الله عليه وآله: (إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ) (فاطر: 23) إلى أن ينختم بظهور خاتم الأولياء وهو الخاتم للولاية المطلقة» (1).

فهرس الكتاب