صفحة 234
أشرنا إلى أنّ البسملة تكرّرت في أوائل جميع السور القرآنيّة باستثناء سورة براءة. إلاّ أنّ ظاهرة تكرار الآيات القرآنيّة ليست مختصّة بالبسملة فقط ـ كما أشرنا إلى ذلك في مقدّمات هذا الكتاب ـ ولكن لهذه الظاهرة في البسملة بعض الخصوصيّات:الأُولى: أنّه لا توجد آية في القرآن الكريم تكرّرت كما هو الحال في البسملة.
الثانية: أنّ غير البسملة من الآيات التي تكرّرت، إنّما كان ذلك ـ في الأعمّ الأغلب ـ ضمن سورة واحدة معيّنة، بينما وردت البسملة في بداية كلّ سورة عدا سورة واحدة، مع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف السور القرآنيّة من حيث المحتوى والمضمون والظروف التي نزلت فيها، لذلك لا يمكن تفسير هذه الظاهرة ضمن التفسير العامّ لظاهرة تكرار الآيات في القرآن.
هنا يمكن الإشارة إلى وجهين لتفسير هذه الظاهرة:
الأوّل: كرّر القرآن ذكر السورة كثيراً، كقوله تعالى: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) (يونس: 38) وقوله: (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) (هود: 13) وقوله: (فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ) (التوبة: 86) وقوله: (سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا) (النور: 1) وقد كثر استعمالها في لسان النبيّ صلّى الله عليه وآله وأئمّة أهل البيت عليهم السلام والصحابة، كثرةً لا تدع ريباً في أنّ لها حقيقة في القرآن الكريم، وهي أنّ هناك نوعاً من وحدة التأليف والمضمون لا يوجد بين أبعاضٍ من سورة ولا بين سورة وسورة.
من هنا يعلم أنّ الأغراض والمقاصد المحصّلة من السور مختلفة، وأنّ كلّ واحدة منها مسوقة لبيان معنى خاصّ ولغرض معيّن لا تتمّ السورة إلاّ بتمامه.
صفحة 235
وعلى هذا فالبسملة في مبتدأ كلّ سورة راجعة إلى الغرض الخاصّ من تلك السورة.بناءً على هذا التفسير لا يوجد هناك تكرار على مستوى مضمون البسملة ومحتواها، وإنّما التكرار لفظيّ لا غير.
الثاني: إنّ البسملة إنّما تكرّرت في القرآن لأنّها تمثِّل شعاراً للمسلمين، وليست هي مجرّد أدب يتأدّبون به، بل ليتميّزوا بها عن غيرهم ولتصبح مَعْلَماً من المعالم التي تتّصف وتتشكّل بها حياتهم، شأنها في ذلك شأن السلام والصلاة وما شابههما.
وعلى أساس هذا الفهم يُصبح من الواضح تفسير هذه الظاهرة، لأنّ طبيعة الشعار تفرضه، وبدون التكرار لا يتّخذ الموضوع شكل الشعاريّة. وهناك مجموعة من القرائن والمؤشّرات التي تعطي بمجموعها اطمئناناً إلى كون البسملة شعاراً من الشعارات الإسلاميّة .
منها: الروايات الواردة في أهمّيه البسملة وفضلها، إذ نجدها قد أعطت البسملة مقاماً خاصّاً لم يعط لغيرها من الآيات، فهي أفضل الآيات على الإطلاق، لأنّها أفضل آيات سورة الحمد التي جعلها الله تبارك وتعالى بإزاء القرآن العظيم.
- عن محمّد بن مسلم قال: «سألت أبا عبد الله الصادق عليه السلام عن السبع المثاني والقرآن العظيم هي الفاتحة؟ قال: نعم. قلت: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) من السبع المثاني؟ قال: نعم هي أفضلّهن».
- وعن أبي حمزة عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: «... سرقوا أكرم آية في كتاب الله (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)».
ولا يمكن أن يُقال إنّ هذه الأهمّية الخاصّة التي أُعطيت لها، إنّما هي باعتبار مضمونها والمفردات الموجودة فيها، لأنّ هناك آيات أخرى اشتملت
صفحة 236
على كلّ ذلك دون أن تعطى تلك الأهمّية المميّزة، كقوله تعالى: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 163).ومنها: أنّ مضمون البسملة يناسب الشعار، وذلك بلحاظ:
أوّلاً: إنّ حذف متعلّق حرف الجرّ، قد يكون المقصود منه جعل القضيّة أوسع من حالة الابتداء أو الاستعانة، لأنّ الحذف أسلوب استخدمه القرآن في مقام إطلاق الشيء وإعطائه صفة أشمل، وحينئذ تكون البسملة ذات طبيعة شاملة يمكن استخدامها كشعار في كلّ حالة يعيشها الإنسان المسلم. وهذا ما أشارت إليه نصوص سابقة.
ثانياً: إنّ البسملة تتركّب من مفردات أربع تتمركز كلّها حول مفهوم واحد هو «الله» تبارك وتعالى، وهي جميعاً تؤكّد عظمة ذلك، مع إظهار غلبة صفة الرحمة ـ كما أشرنا ـ .
وثالثاً: الروايات التي وردت من الفريقين وبألسنة مختلفة، والتي تدلّ على أنّ الناس في عصر الرسول صلّى الله عليه وآله وحتّى الجاهليّين منهم قد تعاملوا مع البسملة على أنّها شعار إسلامي.
- في تفسير العيّاشي عن زيد بن علي قال: «دخلت على أبي جعفر الباقر عليه السلام فذكر (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فقال: تدري ما نزل في (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فقلت: لا. فقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان يصلّي بفناء الكعبة، فرفع صوته. وكان عُتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل بن هشام وجماعة منهم يستمعون قراءته.
قال: وكان يُكثر ترداد (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فيرفع بها صوته.
قال فيقولون: إنّ محمّداً ليُردّد اسم ربّه ترداداً، إنّه ليُحبّه، فيأمرون من يقوم فيستمع إليه، ويقولون: إذا جاز (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فأعلمنا حتّى
صفحة 237
نقوم فنستمع قراءته، فأنزل الله في ذلك (وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً)» (1).ولعلّ في الرواية ما يؤيّد أنّ المشركين قد انتزعوا من مسألة تكرار الرسول صلّى الله عليه وآله للبسملة بصوت مرتفع: أنّ هذه الآية شعار من شعارات المسلمين؛ لذلك كرهوا سماعها.
بناءً على هذه المؤشّرات يمكن أن نفهم سرّ اهتمام المسلمين بالبسملة اهتماماً خاصّاً ميّزها عن كثير من الآداب الإسلاميّة الأُخرى التي نصَّ عليها القرآن الكريم من قبيل الاستعاذة مثلاً؛ قال تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (النحل: 98).
وبه تبيّن أنّ التركيز على البسملة وتكرارها عند كلّ أمر والحثّ عليها
- بالنحو الذي تقدّمت الإشارة إليه ـ ليس لكونها أدباً إسلاميّاً فحسب، بل هي ـ مضافاً إلى ذلك ـ تحمل خصوصيّة أُخرى هي الشعاريّة للفرد المسلم (2).