Rss Feed

  1. البحث الرابع: السبب في الابتداء باسمه تعالى
    ابتدأ سبحانه كلامه وكتابه التدويني باسمه عزّ اسمه، ليكون أدباً يؤدّب به العباد في جميع أفعالهم وأقوالهم؛ لأنّ الله تعالى هو (الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) (الحديد: 3)، فهو تعالى الموجود الحقّ الذي يستمدّ منه كلّ موجود وجوده ويبدأ منه كلّ مبدوء بدأه، فباسمه إذن لابدّ أن يكون كلّ ابتداء، وباسمه لابدّ أن تكون كلّ حركة وكلّ اتّجاه، وذلك أنّ الله سبحانه يبيّن في
    ــــــــــ
    (1) تفسير الصافي: ج1 ص69.

    صفحة 233
    مواضع من كلامه أنّ ما ليس لوجهه الكريم هالك باطل؛ قال عزّ وجلّ: (لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ) (القصص: 88)، وقال: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً) (الفرقان: 23)، وهذا معناه أنّ كلّ أمر من الأمور إنّما نصيبه من البقاء والدوام بقدر ما لله فيه نصيب، وهو مفاد جملة من الروايات التي رواها الفريقان عن النبيّ صلّى الله عليه وآله: «كلّ أمر ذي بال لم يُبدأ فيه باسمه فهو أبتر» (1).
    من هنا يتبيّن أنّ الأنسب في متعلّق الباء في البسملة هو الابتداء لا الاستعانة وإن كانت لا بأس بها؛ ذلك لاشتمال السورة على الاستعانة صريحاً في قوله: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).
    ووصفه سبحانه في البدء بهذين الوصفين وهما «الرحمن، الرحيم» لعلّه للإشارة إلى أنّ رحمة الله عزّ وجلّ سابقة على غضبه، ووسعت كلّ شيء كما نطق به قوله: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (الأعراف: 156)، وقوله: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) (المؤمن: 7)، لذا ذكر الرحمة في البسملة بدون قيد وشرط فتكون شاملة لكلّ شيء، ومعنى ذلك أنّ الله سبحانه قرّر حقيقة العلاقة بينه وبين خلقه على أساس الرحمة، وأنّ العقاب له طابع استثنائيّ لا ينزل إلاّ في ظروف خاصّة، وهذا إن دلَّ على شيء فلعلّه يدلّ على أنّ المجتمع البشري السائر على طريق الله سبحانه والمتخلّق بأخلاقه ينبغي أن يقيم نظام حياته على أساس الرحمة والمحبّة في جميع المجالات إلاّ في مواقع الضرورة؛ لذا نجد أنّ (113) سورة من القرآن تبدأ بالبسملة المشتملة على الرحمة من مجموع (114) سورة في القرآن الكريم، وسورة واحدة وهي سورة التوبة تبدأ بإعلان الحرب.
    ــــــــــ
    (1) الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، مصدر سابق: ج1 ص26؛ الأصول من الكافي، مصدر سابق: ج2 ص504، كتاب الدعاء، باب التحميد والتمجيد.

فهرس الكتاب