الثالث: الاسم في اصطلاح العرفاء
وقد يطلق الاسم ويُراد به ما يقابل الصفة، والصفة تحديداً هي التي تحكي حقيقة الوصف من دون انتسابه إلى الذات، في حين إنّ الاسم هو عبارة عن الذات المتحيّثة بالصفة والمأخوذة معها، فالحياة والعلم صفتان، والحيّ والعالم اسمان.فحقيقة الصفة والاسم هو الذي يكشف عنه لفظ الصفة والاسم، فمثلاً حقيقة الحياة المدلول عليها بلفظ الحياة هي الصفة الإلهيّة، وحقيقة الذات بلحاظ حياتها هي الاسم الإلهي، وبهذا اللحاظ يعود الحيّ والحياة اسمين للاسم والصفة وإن كانا باللحاظ الأوّل المتقدّم نفس الاسم ونفس الصفة.
والسرّ في تسمية الذات المتحيّثة ـ التي هي من الأعيان الخارجيّة ـ بالاسم هو أنّهم لمّا وجدوا أنّ الأوصاف المأخوذة على وجه تحكي عن الذات وتدلّ عليها، حالها حال اللفظ المسمّى بالاسم في أنّه يدلّ على ذوات خارجيّة، فسمّوا هذه الأوصاف الدالّة على الذوات أيضاً أسماء، فأنتج ذلك أنّ الاسم كما يكون أمراً لفظيّاً كذلك يكون أمراً عينيّاً.
ثمّ وجدوا أنّ الدالّ على الذات القريب منه هو الاسم بالمعنى الثاني، وأنّ الاسم بالمعنى الأوّل إنّما يدلّ على الذات بواسطته، لذلك سمّوا الذي بالمعنى الثاني اسماً والذي بالمعنى الأوّل اسم الاسم، لكن هذا كلّه أمرٌ أدّى إليه
صفحة 199
التحليل النظري ولا ينبغي أن يحمل على اللغة.من هنا آمنت هذه المدرسة أنّ هذه الألفاظ المسمّاة بأسماء الله إنّما هي أسماء الأسماء وأنّ ما تدلّ عليه وتشير إليه من المصداق أعني الذات المأخوذة بوصف ما، هو الاسم بحسب الحقيقة.
ثمّ إنّ الاسم العيني إن كان هو الذات مأخوذة بوصف ذاتيّ كالحياة والعلم والقدرة كان عين الذات، وإن كان هو الذات مأخوذة بوصف فعليّ كالخالق والرازق كان زائداً على الذات خارجاً عنها.
هذا في الأسماء، وأمّا في أسماء الأسماء وهي الألفاظ الدالّة على الذات المأخوذة مع وصف من أوصافها، فلا ريب في كونها غير الذات وأنّ الاسم غير المسمّى.
قال القيصري: «والذات مع صفة معيّنة واعتبار تجلٍّ من تجلّياتها تسمّى بـ «الاسم» فإنّ «الرحمن» ذات لها الرحمة، و«القهّار» ذات لها القهر. وهذه الأسماء الملفوظة هي أسماء الأسماء، ومن هنا يعلم أنّ المراد بأنّ الاسم عين المسمّى ما هو» (1).
وقال صدر المتألّهين في تفسيره: «الاسم في عرف المحقّقين من أكابر العرفاء المعتبرين، عبارة عن الذات المأخوذة مع بعض الشؤون والاعتبارات والحيثيّات، فإنّ للحقّ تعالى شؤوناً ذاتيّة ومراتب غيبيّة يحصل له بحسب كلّ منها اسم أو صفة حقيقيّة أو إضافيّة أو سلبيّة... وعلى هذا يكون الفرق بين الاسم والصفة في اعتبار العقل كالفرق بين المركّب والبسيط، إذ الذات معتبرة في مفهوم الاسم دون مفهوم الصفة» (2).
ــــــــــ
(1) شرح فصوص الحكم، داود القيصري، تحقيق: آية الله حسن حسن زادة الآملي: ج1 ص64.
(2) تفسير القرآن الكريم، صدر المتألّهين، مصدر سابق: ج5 ص38.
صفحة 200
وقال البهائي في «الكشكول»: «اعلم أنّ أرباب القلوب على أنّ الاسم هو الذات مع صفة معيّنة وتجلٍّ خاصّ، وهذا الاسم هو الذي وقع فيه التشاجر من أنّه عين المسمّى أو غيره، وليس التشاجر في مجرّد اللفظ كما ظنّه المتكلِّمون، فسوّدوا قراطيسهم وأفعموا كراديسهم بما لا يجدي بطائل» (1).وقال الفيض الكاشاني في «عين اليقين»: «الاسم عين المسمّى باعتبار الهويّة والوجود، وإن كان غيره باعتبار المعنى والمفهوم» (2).
وقد استعملت جملة من النصوص الروائيّة الاسم بهذا المعنى، منها:
- عن إبراهيم بن عمر عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: «إنّ الله تبارك وتعالى خلق اسماً بالحروف غير متصوّت، وباللفظ غير منطق، وبالشخص غير مجسّد، وبالتشبيه غير موصوف، وباللون غير مصبوغ، منفيّ عنه الأقطار، مبعّد عنه الحدود، محجوب عنه حسّ كلّ متوهّم، مستتر غير مستور...» (3).
بعد أن أوضحنا في ما سبق أنّ الاسم قد يُطلق ويُراد به هذه الألفاظ المكوّنة من هذه الحروف، وقد يطلق ويُراد به الذات الإلهيّة لا بما هي هي، بل بما هي متحيّثة بحيثيّة وصفة من الصفات، نقول: لا إشكال أنّ الاحتمال الأوّل غير مراد في هذا النصّ، وذلك لأنّ هذه الصفات المعدودة فيه صريحة في أنّ المراد بهذا الاسم ليس هو اللفظ ولا معنىً يدلّ عليه اللفظ من حيث إنّه مفهوم ذهنيّ، فإنّ اللفظ والمفهوم الذهني الذي يُدلّ عليه باللفظ لا مجال لاتّصافه بهذه الأوصاف والنعوت المذكورة.
ــــــــــ
(1) نقلاً عن الكلمة العليا في توقيفيّة الأسماء الحسنى: ص66.
(2) نقلاً عن المصدر السابق: ص70.
(3) الأصول من الكافي: كتاب التوحيد، باب حدوث الأسماء، الحديث 1، ج1 ص112.
صفحة 201
فقوله عليه السلام: «بالحروف غير متصوّت» يدلّ دلالة واضحة على أنّ المراد بالاسم هنا ليس لفظه أو مفهومه، بل شيء آخر غير الكلام. وقوله: «بالشخص غير مجسّد» دليل على أنّ هذا الاسم غير جسماني، بل موجود مجرّد روحاني، إذ المخلوق لا يخرج عن هذين القسمين، وكذلك أكثر ما ذكر بعد هذين الوصفين يؤكّد عدم كونه جسماً أو جسمانيّاً. وقوله: «بالتشبيه غير موصوف» يدلّ على عدم كونه عقلاً أو نفساً إذ لو كان أحدهما لكان شبيهاً بهما.فتحصّل من جميع ذلك أنّ الاسم هنا هو الذات باعتبار صفة من صفاتها، من هنا تتكثّر الأسماء بتكثّر الصفات، وسيأتي مزيد توضيح لهذا النصّ عند الوقوف على مفردة الاسم الأعظم.
- وعن محمّد بن سنان قال: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن الاسم ما هو؟ قال: صفة لموصوف» (1).
وهذا النصّ كالصريح بما ذكرناه من أنّ الاسم قد يطلق في لسان الأخبار ويُراد به ما اصطلح عليه العرفاء من الاسم، وهي الذات لا بما هي هي، بل باعتبار صفة من صفاتها.
ومن أهمّ النتائج المترتّبة على ذلك: أنّ الاسم بهذا المعنى قد يكون عين المسمّى. بيان ذلك: أنّ الصفات الإلهيّة تنقسم بنحو من أنحاء القسمة إلى ذاتيّة كالحياة والعلم والقدرة، وفعليّة كالخلق والرزق، وبهذا اللحاظ تنقسم الأسماء أيضاً إلى أسماء ذاتيّة وأسماء فعليّة. ولمّا كانت الصفات الذاتيّة عين الذات مصداقاً وغيرها مفهوماً، إذن يكون الاسم ـ بحسب هذا الاصطلاح ـ عين المسمّى، وهذا ما أشار إليه القيصري سابقاً بقوله: «ومن هنا يُعلم أنّ
ــــــــــ
(1) الأصول من الكافي: كتاب التوحيد، باب حدوث الأسماء، الحديث 3، ج1 ص113.
صفحة 202
المراد من أنّ الاسم عين المسمّى ما هو».وبهذا يتّضح أنّ النزاع الذي وقع بين المدارس الكلاميّة، في أنّ الاسم هو عين المسمّى أم غيره؟ فذهب جماعة إلى العينيّة وآخرون إلى الغيريّة، وجزم بعضهم بأنّ الخوض في هذا البحث على جميع التقادير يجري مجرى العبث، ناشئ من الخلط بين الأسماء وأسماء الأسماء أي ألفاظ الأسماء، حيث توهّموا أنّ المراد من العينيّة، عينيّة هذه الألفاظ أو المفاهيم المحكية لها التي هي أسماء الأسماء مع الذات الإلهيّة .
وقد تبيّن أنّ الأمر ليس كذلك، بل لا يمكن أن يتفوّه به عاقل، لبداهة أنّ الأسماء اللفظيّة هي غير المسمّى، وهذا ما وجدنا تأكيده مكرّراً في النصوص الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وإنّما التي يمكن أن تكون عين المسمّى، هي الأسماء العينيّة لا اللفظيّة.
ولعلّ هذا ما نستطيع استفادته من بعض النصوص الروائيّة، منها:
- عن أبي هاشم الجعفري قال: «كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السلام فسأله رجل فقال: أخبرني عن الربّ تبارك وتعالى له أسماء وصفات في كتابه؟ وأسماؤه وصفاته هي هو ؟
فقال أبو جعفر عليه السلام: «إنّ لهذا الكلام وجهين:
إن كنت تقول: هي هو أي أنّه ذو عدد وكثرة، فتعالى الله عن ذلك .
وإن كنت تقول: هذه الصفات والأسماء لم تزل، فإن «لم تزل» محتمل معنيين:
فإن قلت: لم تزل عنده في علمه وهو مستحقّها فنعم، وإن كنت تقول: لم يزل تصويرها وهجاؤها وتقطيع حروفها، فمعاذ الله أن يكون معه شيء غيره، بل كان الله ولا خلق، ثمّ خلقها وسيلة بينه وبين خلقه، يتضرّعون بها
صفحة 203
إليه ويعبدونه وهي ذكره» (1).هذا النصّ يشير إلى أنّه متى يكون الاسم عين المسمّى ومتى لا يكون كذلك، فإنّ السائل بعد أن سأل أنّ أسماء الله تعالى هل هي هو؟ أجاب عليه السلام: إنّ لقولك وجهين:
الأوّل: أن يكون المراد كون كلٍّ من تلك الأسماء المؤلّفة والمركّبة من الحروف عين ذاته سبحانه، وحكم بأنّه تعالى منزّه عن ذلك؛ لاستلزامه تركّبه وحدوثه، تعالى عن ذلك.
الثاني: أن يكون قوله: «هي هو» كناية عن كونها دائماً معه في الأزل، فكأنّها عينه، وهذا يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يكون المراد أنّه تعالى كان في الأزل مستحقّاً لإطلاق تلك الأسماء عليه، وكون تلك الأسماء في علمه تعالى من غير تعدّد في ذاته وصفاته، ومن غير أن يكون معه شيء في الأزل فهذا حقّ.
وثانيهما: أن يكون المراد أنّ تلك الأسماء والحروف المؤلّفة، دائمة معه في الأزل، فمعاذ الله أن يكون معه غيره في الأزليّة الذاتيّة، سيما الحوادث الزمانيّة، بل كان الله ولا خلق، إذ الخلق من عالم التقدير والتكوين، والله خالق الأمر والخلق ومكوّن الكون.
ثمّ أشار عليه السلام إلى فائدة هذه الأسماء المسموعة فقال: «ثمّ خلقها وسيلة بينه وبين خلقه» إذ بها يخاطبونه ويطلبون منه حاجاتهم كقولهم: يا الله يا رحمن يا رحيم يا غفّار.. إقض حاجاتنا وارحمنا واغفر لنا، ويتضرّعون بها إليه ويعبدونه خوفاً وطمعاً، وكلّ ذلك من خلال هذه الأسماء اللفظيّة، إذ ليس كلّ أحد بمقدوره مناجاة الحقّ من غير هذه الأسماء الملفوظة.
ــــــــــ
(1) أصول الكافي: كتاب التوحيد، باب معاني الأسماء واشتقاقها، الحديث 7، ج1 ص116.
صفحة 204
ثمّ عاد عليه السلام إلى بيان مغايرة هذه الأسماء والصفات اللفظيّة للذات الأحديّة بوجوه واضحة الدلالة على ذلك .- منها: «كان الله ولا ذكر، والمذكور بالذكر هو الله القديم الذي لم يزل» أي أنّ الذِّكر حادث، والمذكور بالذكر قديم، ولا يعقل أن يكون الحادث عين القديم، وإلاّ لزم الانقلاب.
- ومنها: «والأسماء والصفات مخلوقات، والمعني بها هو الله» فإنّ الأسماء اللفظيّة مخلوقة له تعالى، وأمّا مصداقها المحكي لها أي الذات الأحديّة فليست كذلك.
- ومنها: «لا يليق به الاختلاف ولا الائتلاف، وإنّما يختلف ويأتلف المتجزّي فلا يُقال: الله مؤتلف ولا الله قليل ولا كثير، ولكنّه القديم في ذاته، لأنّ ما سوى الواحد متجزّي والله واحد لا متجزّئ ولا متوهّم بالقلّة والكثرة، وكلّ متجزّي أو متوهّم بالقلّة والكثرة فهو مخلوق دالّ على خالق له» (1) بمعنى أنّ ذاته سبحانه ليست بمؤتلف ولا مختلف لأنّه واحد حقيقي، وكلّ ما يكون كذلك لا يكون مؤتلفاً ولا مختلفاً.
أمّا أنّه واحد حقيقي فلقدمه ووجوب وجوده لذاته، وأمّا أنّ الواحد لا يصحّ عليه الائتلاف والاختلاف، لأنّ كلّ متجزّئ أو متوهّم بالقلّة والكثرة مخلوق، ولا شيء من المخلوق بواحد حقيقيّ، فلا شيء من الواحد بمتجزئ، ولا شيء من المتجزّئ بواحد.
فتحصّل إلى هنا أنّ للاسم بحسب النصوص الروائيّة إطلاقين: لفظيّ وعينيّ وأنّ العيني ليس هو الذات المقدّسة بما هي على إطلاقها، وليس هو اللفظ، وإنّما هو الذات المتحيّثة المتعيّنة بصفة من الصفات أو بتجلٍّ من التجلّيات.
ــــــــــ
(1) المصدر السابق: ج1 ص116.