Rss Feed

  1. (2) المفردة الثانية: الله
    هو أجلّ لفظ في الممكنات كلّها لأعظم معنىً في الموجودات جميعها. وقد ذكر القرآن الكريم هذا اللفظ المبارك في ألفين وستّمائة وسبع وتسعين موضعاً. وقد تناول الأعلام هذا اللفظ من جهات عديدة:
    منها: أهو اسم جنس للواجب بالذات لكنّه منحصر في الفرد كالشمس والقمر كما ذهب إليه جمعٌ من المفسّرين، أم هو اسم علم لله تعالى وهو بسيط وليس بمشتقّ؟
    لعلّ الصحيح أنّه اسم علم مختصّ بواجب الوجود بالذات المستجمع لجميع الصفات الكماليّة؛ لظهور آثار العلميّة فيه، على ما هو المعروف بين الأدباء، وقد ذكروا لإثبات ذلك جملة من القرائن:
    - الأولى: أنّ لفظ الجلالة بما له من المعنى لا يستعمل وصفاً، فلا يُقال: العالم الله، الخالق الله، على أن يراد بذلك وصف العالم والخالق بصفة هي كونه «الله». وهذه آية كون لفظ الجلالة جامداً، وإذا كان جامداً كان علماً لا محالة، بخلاف العكس فإنّه يوصف بجميع الأسماء الحسنى وسائر الأفعال المأخوذة من تلك الأسماء فيُقال: «الله الرحمن الرحيم» ويُقال: رحِم الله وعلِم الله ورزَق الله، وهذا معنى قولهم: إنّ لفظ الجلالة علمٌ يوصف ولا يوصف به. ولعلّ هذا هو المستفاد من قوله تعالى: (قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) (الإسراء: 110)، بتقريب أنّ مرجع الضمير في «له» هو الله، فجميع الأسماء الحسنى صفات تجري على هذا الاسم، ولكونها صفات وصفت بالحسنى.
    فإن قلت: أليس الله تعالى قال: (الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا

    صفحة 206
    فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) (إبراهيم: 1 ـ 2)؟
    قلنا: هنا قراءتان:
    الأولى: قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر برفع اسم الجلالة على أنّه خبر عن مبتدأ محذوف. والتقدير: هو (أي العزيز الحميد) الله الموصوف بالذي له ما في السماوات والأرض. وهذا الحذف جارٍ على حذف المسند إليه المسمّى عند علماء المعاني تبعاً للسكاكي بالحذف لمتابعة الاستعمال، أي استعمال العرب عندما يجري ذكر موصوف بصفات أن ينتقلوا من ذلك إلى الإخبار عنه بما هو أعظم ممّا تقدّم ذكره ليكسب ذلك الانتقال تقريراً للغرض. وحينئذ يزول السؤال لأنّه لمّا جعله خبراً لمبتدأ محذوف فقد أخرجه عن جعله صفة لما قبله.
    الثانية: وهي القراءة بالجرّ فهو نظير قولنا: هذه الدار ملك للفاضل العالم زيد، وليس المراد أنّه جعل قوله «زيد» صفة للعالم الفاضل، بل المعنى أنّه لمّا قال: هذه الدار ملك للعالِم الفاضل، بقي الاشتباه في أنّه مَن ذلك العالِم الفاضل؟ فقيل: عقيبه «زيد» ليصير هذا مزيلاً لذلك الاشتباه، ولمّا لم يلزم أن يقال اسم العالم صار صفته، فكذلك في هذه الآية.
    ومآل القراءتين واحد وكلتا الطريقتين تفيد أنّ المنتقل إليه أجدر بالذِّكر عقب ما تقدّمه، فإنّ اسم الجلالة أعظم من بقيّة الصفات لأنّه علم الذات الذي لا يشاركه موجود في إطلاقه.
    - الثانية: إنّ لفظ الجلالة لو لم يكن علماً لما كانت كلمة «لا إله إلاّ الله» كلمة توحيد، فإنّها لا تدلّ على التوحيد بنفسها حينئذ كما لا يدلّ عليه قول: «لا إله إلاّ الرازق أو الخالق» أو غيرهما من الألفاظ التي تُطلق على الله سبحانه، لأنّه بتقدير أن يكون «الله» لفظاً مشتقّاً كان قولنا «الله» غير مانع من أن يدخل تحته أشخاص كثيرة، لكون معناه حينئذ معنىً كلّياً لا يمنع نفس مفهومه من وقوع الشركة فيه؛ لأنّ اللفظ المشتقّ لا يفيد إلاّ أنّه شيء ما مبهم حصل له

    صفحة 207
    ذلك المشتقّ منه، وهذا المفهوم لا يمنع من وقوع الشركة فيه بين كثيرين.
    - الثالثة: إنّ حكمة الوضع تقتضي وضع لفظ للذات المقدّسة، كما تقتضي بإزاء سائر المفاهيم، وليس في لغة العرب لفظ موضوع لها غير لفظ الجلالة، فيتعيّن أن يكون هو اللفظ الموضوع لها.
    ثمّ إنّ الألف واللام من كلمة الجلالة وإن كانت جزءًا منها على العلميّة، إلاّ أنّ الهمزة فيها همزة وصل تسقط في الدرج، إلاّ إذا وقعت بعد حرف النداء فتقول: «يا ألله» بإثبات الهمزة، وهذا ممّا اختصّ به لفظ الجلالة ولم يوجد نظيره في كلام العرب قطّ. ولا مضايقة في كون كلمة الجلالة من المنقول، وعليه فالأظهر أنّه مأخوذ من كلمة «لاه» بمعنى الاحتجاب والارتفاع، فهو مصدر مبنيّ للفاعل لأنّه سبحانه هو المرتفع حقيقة الارتفاع التي لا يشوبها انخفاض، وهو في غاية ظهوره بآثاره وآياته، محتجب عن خلقه بذاته، فلا تدركه الأبصار ولا تصل إلى كنهه الأفكار.

فهرس الكتاب