البحث الثالث: بحث عرفاني، في حمد الله تعالى نفسه
المشهور بين المحقّقين: أنّ معنى حمد الله نفسه إنّما يكون بإخباره تعالى استحقاقه الحمد والأمر به لإظهار الصفات الكماليّة له تعالى التي هي الغايةــــــــــ
(1) الأصول من الكافي: كتاب الدعاء، باب التحميد والتمجيد، الحديث 1، ج2 ص503.
(2) المصدر نفسه: كتاب الكفر والإيمان، باب الشكر، الحديث 19: ج2 ص97.
(3) المصدر نفسه: باب في أنّ الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلّها، الحديث 1: ج2 ص33 .
صفحة 246
القصوى من الحمد.إلاّ أنّ أهل المعرفة قالوا: إنّ حمده تعالى نفسه بنفسه هو أعلى مراتب الحمد، وهو أيضاً على أنحاء:
الأوّل: وهو الحمد القولي، فهو عبارة عمّا بيّنه تعالى ونطق به في كتبه وصحفه على لسان أنبيائه عليهم السلام، وأثنى على ذاته بما هو أهله، كما قال النبيّ صلّى الله عليه وآله: «لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» (1).
الثاني: وهو الحمد الفعلي: فهو عبارة عن إظهار كمالاته الجماليّة والجلاليّة من غيبه إلى شهادته، ومن باطنه إلى ظاهره، ومن علمه في الصقع الربوبي إلى عالم الأعيان الخارجيّة التي هي مظاهر أسمائه ومحالّ ولاية صفاته.
ومن الواضح أنّ هذا النحو من الحمد أقوى من السابق، لأنّ دلالة اللفظ من حيث هو لفظ، دلالة وضعيّة قد يتخلّف عنها مدلولها، ودلالة الفعل
ـ كدلالة آثار الشجاعة على الشجاعة وآثار السخاوة على السخاوة ـ عقليّة قطعيّة لا يتصوّر فيها تخلّف. فحمد الله ذاته ـ وهو أجلّ مراتب الحمد ـ هو إيجاده كلّ موجود من الموجودات. فالله جلّ ثناؤه حيث بسط بساط الوجود على ممكنات لا تعدّ ولا تُحصى، ووضع عليه موائد كرمه التي لا تتناهى، فقد كشف عن صفات كماله ونعوت جلاله، وأظهرها بدلالات عقليّة تفصيليّة غير متناهية، فإنّ كلّ ذرّة من ذرّات الوجود تدلّ عليها، ولا يتصوّر في العبارة مثل هذه الدلالات، كما وقع التنبيه عليه في الحديث المنقول آنفاً.
ممّا تقدّم يمكن أن يُقال إنّ تقييد الثناء باللسان في تعريف المشهور، إنّما هو قيد غالبيّ مَنشؤه أنّ اللفظ وإن كان موضوعاً في أصل اللغة لعامّ، لكنّه قد يشتهر في بعض موارده ومصاديقه بحيث يصير حقيقة عرفيّة فيه، وسبب
ــــــــــ
(1) بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار: ج68 ص23 باب الشكر (61) الحديث 1.
صفحة 247
الاشتهار إمّا كثرة تداول ذلك الفرد وإمّا عدم الاطّلاع على فرد آخر، فيستعمله أهل اللسان في ذلك الفرد حتّى إذا استمرّ ولم يطّلع على إطلاقه على فرد آخر ظنّ أنّه موضوع لخصوص هذا الفرد دون غيره، كما في لفظ «الميزان» فإنّه في الأصل موضوع لآلة الوزن، سواء ما يوزن به الأجرام والأثقال مثل ذي الكفّتين والقبّان وما يجري مجراهما، وما يوزن به المواقيت والارتفاعات كالاسطرلاب، وما يوزن به الدوائر كالفرجار، وما يُوزن به الأعمدة كالشاقول، وما يُوزن به الخطوط كالمسطرة، وما يوزن به الشِّعر كالعروض، وما يوزن به الفكر كالمنطق، أو ما يوزن به العلوم والأعمال كما يوضع ليوم القيامة...وبالجملة ميزان كلّ شيء يكون من جنسه، ولفظة الميزان حقيقة في كلّ منها باعتبار حدّه وحقيقته الموجودة فيه، إلاّ أنّ من لم يطّلع إلاّ على ما له لسان وعمود ربما يجزم بأنّه موضوع له فقط، ولا يدري أنّ وراء ذلك موازين. ومثل هذا يجري في كثير من الألفاظ في المشتقّات لا يكاد يخفى على من له أدنى فطنة؛ لظهوره بالرجوع إلى قاعدة الاشتقاق.
وعلى ذلك فقس الحمد، فإنّ حقيقته عندهم إظهار صفات الكمال، ولمّا كان الإظهار القولي أظهر أفراده وأشهرها عند العامّة، شاع استعمال لفظ الحمد فيه حتّى صار كأنّه مجاز في غيره، مع أنّه بحسب الأصل أعمّ، بل الإظهار الفعلي أقوى وأتمّ، فهو بهذا الاسم أليق وأولى .