Rss Feed

  1. البحث الرابع: بحث عرفاني آخر، في مراتب الحامدين
    اتّفقت كلمة أهل المعرفة أنّ جهات الخلْقة وخصوصيّات الوجود في الأشياء إنّما ترتبط إلى ذاته المتعالية عن طريق صفاته وأسمائه، وذلك لأنّ كلّ مخلوق في هذا العالم إنّما هو أثر اسم أو أسماء متعدّدة باعتبار بساطته وتركيبه.

    صفحة 248
    ويترتّب على ذلك أنّ الأسماء وسائط بين الذات وبين مصنوعاته، فالعلم والقدرة والرزق والنعمة التي عندنا بالترتيب تفيض عنه سبحانه بما أنّه عالم قادر رازق مُنعم بالترتيب، فجهلنا يرتفع بعلمه، وعجزنا بقدرته، وذلّتنا بعزّته، وفقرنا بغناه، وذنوبنا بعفوه ومغفرته.
    وهذا هو الذي نجري عليه بحسب الذوق المستفاد من الفطرة الصافية، فمن يسأل الغنى من الله، لا يقول: يا مُميت يا مذلّ أغنني، وإنّما يدعوه بأسمائه: الغني، والعزيز والقادر مثلاً، والمريض الذي يتوجّه إليه لشفاء مرضه يقول: يا شافي ويا معافي يا رؤوف اشفني، ولا يقول: يا مُميت يا مُنتقم ياذا البطش اشفني، وعلى هذا القياس.
    إذن فالأشياء تنتسب إليه تعالى بواسطة أسمائه، وبأسمائه بواسطة آثارها المنتشرة في أقطار عالمنا المشهود، فآثار الجمال والجلال في هذا العالم هي التي تربطنا بأسماء جماله وجلاله من حياة وعلم وقدرة وعزّة وعظمة وكبرياء، ثمّ الأسماء تنسبنا إلى الذات المتعالية التي تعتمد عليها قاطبة أجزاء العالم.
    في ضوء هذه الحقيقة عندما يحمد أحد ويقول «الحمد لله» فلابدّ من الالتفات إلى أنّ المحمود أ هو مقام ومرتبة الاسم الأعظم، أم أحد الأسماء الكلّية أو الجزئيّة التي هي دون الاسم الأعظم؟
    يتّضح أنّ الحامدين ليسوا جميعاً على مرتبة واحدة، بل لهم مراتب بعدد الأسماء الإلهيّة؛ فمن الحامدين من يحمد الله تعالى وحمده إنّما هو للاسم الأعظم الجامع لكلّ الأسماء والصفات، ولا يصدر هذا الحمد إلاّ ممّن هو مظهر الاسم الأعظم الإلهي، وهو الإنسان الكامل الذي هو الحقيقة المحمّديّة صلّى الله عليه وآله. لذا قال القيصري: «والحمد المناسب لهذه الحضرة ـ وهي حضرة الاسم «الله» التي هي محيطة بجميع الأسماء والصفات ـ هو الذي يصدر من الإنسان الكامل المكمّل، الذي له مقام الخلافة العظمى، لأنّه حينئذ

    صفحة 249
    يكون منها ولها، إذ الكامل مرآة تلك الحضرة ومظهرها» (1).
    ومن الحامدين من يحمد الله تعالى، ولكن حمده ـ في الحقيقة ـ متوجّه إلى اسم من الأسماء الإلهيّة الكلّية أو الجزئيّة لا الاسم الجامع، كأن يقول «الحمد لله» ومراده الواقعي الحمد للاسم «الرازق، أو الباسط، أو المعطي، أو الشافي» ونحو ذلك.

فهرس الكتاب