السادسة: ما من شيء إلاّ وهو حامد لله تعالى
من الحقائق التي أكّدها القرآن أنّه ما من شيء إلاّ وهو حامد لله تعالى، وهذا صريح قوله: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (الإسراء: 44) وفيه دلالة واضحة على أنّ الموجودات جميعاً ـ عاقلة كانت أو لا، حيّة كانت أم لا ـ حامدة لله تعالى.ولازم ذلك أن يكون العلم سارياً فيها مع سريان الخلقة، إلاّ أنّ حظّها من العلم على قدر حظّها من الوجود، ولا يستلزم ذلك أن تكون جميعها متساوية من حيث درجة العلم والإدراك الذي عندها. وإذا كان كذلك فما من موجود مخلوق إلاّ وهو يشعر بنفسه بعض الشعور، وهو يريد بوجوده إظهار نفسه المحتاجة الناقصة التي يحيط بها غنى ربّه وكماله لا ربّ غيره.
وبذلك يظهر أن لا وجه لحمل التسبيح في الآية على مطلق الدلالة مجازاً، لأنّ المجاز لا يصار إليه إلاّ مع امتناع الحمل على الحقيقة.
ــــــــــ
(1) المصدر السابق: ج1 ص148.
صفحة 279
لا يقال: إنّ مجرّد الكشف عن التنزّه لا يسمّى تسبيحاً حتّى يقارن القصد، والقصد ممّا يتوقّف على الحياة، والحياة تستلزم العلم والقدرة، والمفروض أنّ أغلب هذه الموجودات عادمة للحياة، كالأرض والسماء وأنواع الجمادات، فلا محيص من حمل التسبيح على المجاز، فيكون المراد من تسبيحها دلالتها بحسب وجودها على تنزّه ربّها.فإنّه يقال: إنّ في هذا الكلام خلطاً بين كون الموجودات مسبّحة بحمده تعالى وبين كونها آيات دالّة عليه سبحانه.
بيان ذلك: أنّه كما أنّ عند كلّ من هذه الأشياء شيئاً من الحاجة والنقص عائداً إلى نفسه، كذلك عنده من جميل صنعه ونعمته تعالى شيء راجع إليه تعالى موهوب من لدنه، وكما أنّ إظهار هذه الأشياء لنفسها في الوجود إظهار لحاجتها ونقصها وكشف عن تنزّه ربّها عن الحاجة والنقص، وهو تسبيحها، كذلك إبرازها لنفسها إبراز لما عندها من جميل فعل ربّها الذي وراءه جميل صفاته وأسمائه تعالى، فهو حمدها، فليس الحمد ـ كما تقدّم ـ إلاّ الثناء على الجميل الاختياري، فهي تحمد ربّها كما تسبّحه.
بتعبير آخر: إذا لوحظت الأشياء من جهة كشفها عمّا عند ربّها بإبرازها ما عندها من الحاجة والنقص مع ما لها من الشعور والعلم بذلك، كان ذلك تسبيحاً منها. وإذا لوحظت من جهة كشفها ما لربّها بإظهارها ما عندها من نعمة الوجود وسائر جهات الكمال، فهو حمد منها لربّها. وإذا لوحظ كشفها ما عند الله سبحانه من صفة جمال أو جلال مع قطع النظر عن علمها وشعورها بما تكشف عنه، كان ذلك دلالة منها عليه تعالى وهي آياته.
ولعلّ خير شاهد على أنّ المراد من كونها مسبّحة بحمده ليس مجرّد دلالتها عليه تعالى بنفي الشريك وجهات النقص، هو قوله تعالى: (وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) فإنّه إمّا خطاب للمشركين وإمّا للناس أعمّ من المؤمن والمشرك،
صفحة 280
وهم ـ على أيّ حال ـ يفقهون دلالة الأشياء على صانعها، مع أنّ الآية تنفي عنهم ذلك.فالحقّ أنّ التسبيح والتحميد في الجميع حقيقيّ ـ وإن كنّا لا نفقه ذلك ـ غير أنّ كونه كذلك لا يستلزم أن يكون بألفاظ موضوعة وأصوات مقروعة، وذلك للقاعدة التي أشرنا إليها أنّ الألفاظ ليست موضوعة بإزاء مصاديق معيّنة، وإنّما تشمل كلّ مصداق يشتمل على الغاية والغرض. وسيأتي ـ إن شاء الله ـ مزيد توضيح لذلك في موضعه المناسب.