Rss Feed

  1. طريق الوصول إلى باطن القرآن
    لمّا ثبت أنّ للقرآن بطناً بل بطوناً كثيرة، وأنّ هذه البطون ليست من مقولة المفاهيم والأفكار النظريّة، إذن فلا مجال لإدراكها بالقياسات الفلسفيّة والبراهين العقليّة فضلاً عن غيرها.
    قال الغزالي: «إنّ كشف الحقائق ومعرفة الأشياء على ما هي عليه وإدراك الأسرار التي يترجمها ظاهر ألفاظ هذه العقيدة، لا مفتاح لها إلاّ المجاهدة وقمع الشهوات والإقبال بالكلّية على الله تعالى، وملازمة الفكر الصافي عن شوائب المجادلات، وهي رحمة من الله عزّ وجلّ تفيض على كلّ من يتعرّض لنفحاتها بقدر الرزق المعنوي وبحسب التعرّض وبحسب قبول المحلّ وطهارة القلب، وذلك البحرُ الذي لا يُدرك غورُه ولا يُبلغ ساحلُه» (1).
    وقال الطباطبائي معقّباً على قوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (الزخرف: 3 و 4) «المراد بكونه «عليّاً» أنّه رفيع القدر والمنزلة من أن تناله العقول، وبكونه «حكيماً» أنّه هناك (أي في بطونه) محكم غير مفصّل ولا مجزّأ إلى سور وآيات وجُمل وكلمات، كما هو كذلك بعد جعله قرآناً عربيّاً.
    وهذان النعتان ـ أعني كونه عليّاً حكيماً ـ هما الموجبان لكون القرآن (في مرتبته العالية) وراء العقول البشريّة، فإنّ العقل في تفكّره لا ينال إلاّ ما كان من قبيل المفاهيم والألفاظ أوّلاً، وكان مؤلّفاً من مقدّمات تصديقيّة يترتّب بعضها على بعض كما في الآيات والجمل القرآنيّة، وأمّا إذا كان الأمر وراء المفاهيم والألفاظ (كما هو الحال في باطن القرآن) وكان غير متجزّئ إلى أجزاء وفصول فلا طريق للعقل إلى نيله» (2).
    ــــــــــ
    (1) إحياء علوم الدِّين، مصدر سابق: ج1 ص99 .
    (2) الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق: ج18 ص84.



    صفحة 123
    وإنّما الطريق إليه يمرّ من خلال طهارة القلب؛ قال تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة: 77 ـ 79) فإذا كان مرجع الضمير في قوله «لا يمسّه» الكتاب المكنون، وهو الذي عبّر عنه أُمّ الكتاب في قوله: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا)، واللوح المحفوظ في قوله: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (البروج: 21 ـ 22) فسيكون المراد بالمسّ هو المسّ القلبي، والمراد بالطهارة طهارة الباطن. لذا قال الشيرازي: «وإن كان الضمير في (لا يَمَسُّهُ) عائداً إلى (كِتَابٍ مَكْنُونٍ) وجعلت الجملة الفعليّة صفة له، فالمعنى: لا يمسّ اللوح المحفوظ ولا يحمله بما فيه، إلاّ المجرّدون عن جلباب البشريّة من الإنسان والملائكة، الذين وصفوا بالطهارة من آثار الإجرام...» (1).
    لكن إذا كان النشاط الذهني والفعّاليّة العقليّة قاصرَين عن التعاطي مع بطون القرآن بواقعها الوجودي الكامل، فإنّ ذلك لا يعني انسداد الطريق مطلقاً، بقدر ما يملي على الإنسان الارتقاء من طور في المعرفة أداته العقل إلى طور آخر أداته القلب (2).
    إذن المرحلة تبدأ من الظاهر وبالمعرفة العقليّة التي توفّر إدراكاً ناقصاً وتتحوّل إلى معدّ وحسب، أمّا إذا رامَ الإنسان استكمال الشوط فذلك لا يكون إلاّ بقدم الولاية، حيث يبلغ ذلك الوضع الذي يقع فيه تجلّي الحقّ في قلبه بجميع أبعاده.
    ــــــــــ
    (1) تفسير القرآن الكريم، الشيرازي، مصدر سابق: ج7 ص93 .
    (2) وهذا هو الذي يسمّى في كلمات العرفاء «طور وراء طور العقل»، قال القيصري في شرحه على الفصوص: «لأنّ طور المعرفة فوق طور الإدراك العقلي، وهو الكشف عن حقائق الأُمور على ما هي عليه» . شرح القيصري على فصوص الحكم، للشيخ الأكبر محيي الدِّين ابن عربي، المتوفّى 638هـ: الفصّ الإبراهيمي، ص179ع2، وكذلك الفصّ العزيزي ص304.



    صفحة 124
    ممّا تقدّم تبيّن أنّ القرآن الكريم له مراتب كثيرة مترتّبة طولاً حيث تبدأ من أعلى المراتب الوجوديّة، ثمّ تتنزّل إلى التعيّنات العقليّة بمراتبها المتعدّدة، فتكون العقول بفعليّاتها ووجوداتها مصاديق للقرآن، ثمّ تتنزّل إلى التعيّنات النفسيّة، فتصير النفوس بفعليّاتها مصاديق له، ثمّ تتنزّل إلى التعيّنات المقدارية النورية فيصير عالم المثال بمراتبه مصاديق له، ثمّ نزّله الحقّ إلى التعيّنات الطبيعيّة، فصارت الأجسام الطبيعيّة مصاديق له، ثمّ انتهى إلى آخر مراتب الوجود، وأُلبس لباس الصوت والحروف والكتابة والنقوش حتّى تطيقه الآذان والأبصار البشريّة، فصارت الحروف والنفوس مصاديق له.
    ولمّا كان جميع مراتب الوجود مصاديق للقرآن صار تبياناً لكلّ شيء، ولا رطب ولا يابس إلاّ كان فيه.
    ولمّا كان القرآن له هذه الدرجات والمراتب الوجوديّة، إذن فللناس مراتب متنوّعة في الإفادة منه. فمن يرتبط بالقرآن على مستوى مراتبه النازلة المُشار إليها بـ (هَذَا الْقُرْآنُ) فحظّه العلوم الحصوليّة والمدرسيّة التي تكون عرْضة للنسيان والزوال، أمّا الكاملون الذين يرتبطون بالمراحل العالية من القرآن المشار إليها بـ (ذَلِكَ الْكِتَابُ) فهم يتعلّمون القرآن من (عِنْدِ اللَّهِ) و (لَدَيْنَا) ومن ثمّ فإنّ حظّهم العلمي منه قد وسم بـ «العلم اللدني»: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) (النمل: 6).

فهرس الكتاب