Rss Feed

  1. العلاقة بين الظاهر والباطن
    اتّفقت كلمة أهل التحقيق على أنّ ظاهر الشريعة ليس هو منتهى الإدراك في ذلك، من هنا جاء التأكيد في كلماتهم أنّ الطريق إلى الباطن إنّما يمرّ من خلال إتقان الظاهر وضبطه كوسيلة لبلوغ الباطن.
    قال الغزالي: «لا يجوز التهاون بحفظ التفسير الظاهر أوّلاً، ولا مطمع في

    صفحة 125
    الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر، ومن ادّعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم التفسير الظاهر، فهو كمَن يدّعي البلوغ إلى صدر البيت قبل مجاوزة الباب، أو يدّعي فهم مقاصد الأتراك من كلامهم وهو لا يفهم لغة الترك، فإنّ ظاهر التفسير يجري مجرى تعليم اللغة التي لابدّ منها للفهم» (1).
    نعم يبقى التساؤل عن كيفيّة بلوغ الإنسان هذه الموازنة الدقيقة، وما هي مكوّنات الموقف على هذا الصعيد؟ ثمّ ماذا لو اختلط الأمر، أيترك الإنسان الظاهر لمصلحة الباطن، أم الباطن لأجل الظاهر ؟
    هنا يؤكّد هؤلاء الأعلام ضرورة الإيمان بالظاهر وتركه على حاله، وذلك «لأنّ ترك الظواهر يؤدّي إلى مفاسد عظيمة. نعم، إذا كان الحمل على الظواهر مناقضاً لأصول صحيحة دينيّة وعقائد حقّة يقينيّة، فينبغي للإنسان حينئذ أن يتوقّف فيها، ويحيل علمه إلى الله ورسوله والأئمّة المعصومين عليهم السلام الراسخين في العلم، ثمّ يترصّد الرحمة من عند الله، ويتعرّض لنفحات كرمه وجوده، رجاء أن يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده، أو يقضي الله أمراً كان مفعولاً، امتثالاً لأمره في ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله: «إنّ لله في أيّام دهركم نفحات ألا فتعرّضوا لها» (2).
    بل نرى صدر المتألّهين الشيرازي يمتدح مسلك الظاهريّين ويفضّله في مواضع متعدّدة على منهج المتأوّلة الذين يرفعون اليد عن الظاهر فيقول: «ثم لا يخفى على من له تفقّه في الغرض المقصود من الإرسال والإنزال، أنّ مسلك الظاهريين الراكنين إلى إبقاء صور الألفاظ وأوائل المفهومات، أشبه من طريقة المتأوّلين بالتحقيق، وأبعد من التصريف والتحريف، وذلك لأنّ ما فهموه من
    ــــــــــ
    (1) إحياء علوم الدِّين، مصدر سابق: ج1 ص291.
    (2) تفسير القرآن الكريم، مصدر سابق: ج5 ص147 .


    صفحة 126
    أوائل المفهومات هي قوالب الحقائق التي هي مراد الله ومراد رسوله» (1).
    وذلك لأنّ هذا الكتاب الذي جعل بلسان عربيٍّ مبينٍ متّحدٌ مع ما في اللوح المحفوظ اتّحاد الرقيقة والحقيقة، وقد ثبت في البحث الفلسفي أنّ الرقيقة هي الحقيقة لكن بوجود أضعف، والحقيقة هي الرقيقة بوجود أعلى وأشرف.
    وهكذا هو الحال مع علم من أعلام أهل المعرفة المعاصرين، نجد أنّه يسجّل صراحةً أنّ نزعة إهمال الباطن وتضخيم الظاهر تعطيل، ونزعة إهمال الظاهر وتضخيم الباطن ضلالة، والصراط المستقيم هو الأخذ بالظاهر والتمسّك به في السير للوصول إلى الباطن.
    قال في شرح دعاء السحر: «فمن تمسّك بالظاهر ووقف على بابه قصر وعطل، ويردّه الآيات والروايات المتكاثرة الدالّة على تحسين التدبّر في آيات الله والتفكّر في كتبه وكلماته، والتعريض بالمُعرض عنهما، والاعتراض بالواقف على قشرهما. ومن سلك طريق الباطن بلا نظر إلى الظاهر ضلَّ وأضلّ عن الصراط المستقيم، ومن أخذ الظاهر وتمسّك به للوصول إلى الحقائق ونظر إلى المرآة لرؤية جمال المحبوب، فقد هُدي إلى الصراط المستقيم وتلا الكتاب حقّ تلاوته، وليس ممّن أعرض عن ذكر ربّه» (2).
    إذن المنهج الصحيح هو الإيمان بالظاهر والباطن معاً، بشرط أن تكون الانطلاقة من الظاهر، ثمّ الالتفات إلى أنّ لكلّ واحد منهما شروطه وآدابه الخاصّة ومنهجه المتميّز، لذا فإنّ المحقّق في معارف الدِّين عليه الجمع بين
    ــــــــــ
    (1) المصدر السابق.
    (2) شرح دعاء السحر، تأليف: سماحة آية الله العظمى الإمام الخميني، قدّم له: السيّد أحمد الفهري، مؤسّسة الوفاء، بيروت ـ الطبعة الثانية، 1402هـ: ص74.


    صفحة 127
    الرتبتين، ظاهر الكتاب وباطنه، ولا يحقّ له مفارقة هذا الطريق؛ للتلازم بين الاثنين.
    وهذا ما أكّده الخميني بضرس قاطع حيث قال: «فالعارف الكامل مَن حفظ المراتب وأعطى كلّ ذي حقٍّ حقّه، ويكون ذا العينين وصاحب المقامين والنشأتين، وقرأ ظاهر الكتاب وباطنه وتدبّر في صورته ومعناه وتفسيره وتأويله، فإنّ الظاهر بلا باطن والصورة بلا معنىً كالجسد بلا روح والدّنيا بلا آخرة، كما أنّ الباطن لا يمكن تحصيله إلاّ عن طريق الظاهر، فإنّ الدُّنيا مزرعة الآخرة» (1).
    ــــــــــ
    (1) المصدر السابق.

فهرس الكتاب