Rss Feed

  1. اتّجاهان في فهم بطون القرآن
    قد وقع الكلام بين الأعلام في المراد من هذه النصوص، وقد وجد في مقام فهمها اتّجاهان ـ كما تقدّم في بيان المراد من التأويل ـ .
    بيان ذلك: إنّ هذه النصوص جميعاً اشتركت في وصف القرآن بأنّ له باطناً بل بطوناً متعدّدة، ومن الواضح أنّ لذلك دلالة قاطعة على عمق القرآن كما ورد في حديث الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله حيث قال: «وله ظهر وبطن... ظاهره أنيق وباطنه عميق».
    بيدَ أنّ السؤال: هذا العمق أهو من سنخ المعاني الذهنيّة والمفاهيم النظريّة والفكريّة المستمدّة من اللفظ، أم هي حقائق وراء اللفظ، لها استقلالها السنخي عن الألفاظ، وإن كان يمكن أن تكون ثمَّ علاقة تركيبيّة من نوعٍ ما ما بين الاثنين؟
    بتعبير آخر: ما هو منشأ هذا العمق، وما هو سرّ اختصاص القرآن بالبطون وتوافره على شموليّة المعنى؟ أيعود ذلك إلى كينونة القرآن وأنّه يتألّف من حقائق ذات مراتب متعدّدة تكمن وراء اللفظ، لا يكون اللفظ إلاّ التعبير الأخير عن تلك الحقائق أو قشرة ذلك اللبّ، أم أنّ الذي ينشأ منه عمق القرآن وغور معانيه وثراء مفاهيمه وتعدّدها هو اللفظ وكيفيّة استعماله وتركيبه. ومن ثمّ فإنّ البطون والمعاني المترتّبة على بعضها هي من مقولة المفاهيم والتأويلات الذهنية التي تنبثق عن دلالة اللفظ وطبيعة التركيب
    ــــــــــ
    (1) الإتقان في علوم القرآن: النوع 77، ج2 ص460.

    صفحة 117
    فيكون ممّا يحتمله اللفظ القرآني ويكون أحد مدلولاته، وتخضع عمليّة نيلها ووضع اليد عليها إلى بذل الجهد العقلي والنشاط الذهني التأويلي والاتّصاف بحدّة الذكاء وعمق التفكير وما إلى ذلك ؟
    اختار جملة من الأعلام في المقام ما أشرنا إليه في الاتّجاه الثاني، من أنّ البطون حقيقة كائنة وراء النصّ وخارجة عنه، كالغزالي وابن عربي والشيرازي والطباطبائي وغيرهم.
    أمّا الغزالي فقد قال: «فإن قلت: هذا الكلام يشير إلى أنّ هذه العلوم لها ظواهر وأسرار، وبعضها جليّ يبدو أوّلاً، وبعضها خفيّ يتّضح بالمجاهدة والطلب الحثيث والفكر الصافي والسرّ الخالي عن كلّ شيء من أشغال الدُّنيا سوى المطلوب. وهذا يكاد يكون مخالفاً للشرع، إذ ليس للشرع ظاهر وباطن وسرّ وعلن، بل الظاهر والباطن والسرّ والعلن واحد فيه ؟
    ثمّ أجاب عن ذلك بقوله: «فاعلم أنّ انقسام هذه العلوم إلى خفيّة وجليّة لا ينكره ذو بصيرة، وإنّما ينكره القاصرون الذين تلقّفوا في أوائل الصبا شيئاً وجمدوا عليه، فلم يكن لهم ترقٍّ إلى شأو العلاء ومقامات العلماء والأولياء، وذلك ظاهر من أدلّة الشرع. قال صلى الله عليه (وآله) وسلّم: إنّ للقرآن ظاهراً وباطناً وحدّاً ومطلعاً، وقال عليّ رضي الله عنه ـ وأشار إلى صدره ـ: إنّ هاهنا علوماً جمّة لو وجدت له حَمَلَة.
    وقال الله تعالى: (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ) (العنكبوت: 43) وقال صلى الله عليه (وآله) وسلّم: إنّ من العلوم كهيئة العلم المكنون لا يعلمه إلاّ العالمون».
    ثمّ ختم كلامه بقوله: «ومَن زعم أن لا معنى للقرآن إلاّ ما ترجمه ظاهر التفسير فهو مخبرٌ عن حدّ نفسه، وهو مصيب في الإخبار عن نفسه، ولكنّه

    صفحة 118
    مخطئ بردّ الخلق كافّة إلى درجته التي هي حدّه ومحطّه...» (1).
    وقال الشيرازي إنّ القرآن: «ينقسم إلى سرّ وعلن، ولكلّ منهما ظهر وبطن، ولبطنه بطن آخر إلى أن يعلمه الله، ولعلانيته علانية أخرى إلى أن تدركه الحواسّ وأهلها.
    أمّا ظاهر علنه، فهو المصحف المحسوس الملموس والرقم المنقوش الممسوس. وأمّا باطن علنه، فهو ما يدركه الحسّ الباطن ويستثبته القرّاء والحفّاظ في خزانة محفوظاتهم كالخيال ونحوه. وهاتان المرتبتان من القرآن أوّليّتان دنيويّتان، ممّا يدركه كلّ إنسان.
    وأمّا باطنه وسرّه فهما مرتبتان أُخرويّتان، لكلّ منهما درجات، حيث صار إلى تعداد بعضها، وذكر تقسيمات لبطون القرآن، هي تعبير عن حقائق وجوديّة.
    ثمّ قال: «فإذا تقرّر هذا، ثبت أنّ للقرآن منازل ومراتب، كما للإنسان درجات ومعارج، فلابدّ لمسّ القرآن في كلّ مرتبة ودرجة من طهارة وتجرّد عن بعض العلايق.
    وبالجملة للقرآن درجات، وكذلك للإنسان بحسبها، ولكلّ درجة من درجاته حَمَلة يحملونه وحفظة يحفظونه، ولا يمسّونه إلاّ بعد طهارتهم عن حدثهم أو حدوثهم، وتقدّسهم عن شواغل مكانهم أو إمكانهم، وأدنى المنازل في القرآن ما في الجلد والغلاف، كما أنّ أدون الدرجات للإنسان هو ما في الجلدة والبشرة» (2).
    ــــــــــ
    (1) إحياء علوم الدِّين، تصنيف: الإمام أبي حامد محمّد بن محمّد الغزالي، المتوفّى سنة 505 هـ، دار المعرفة، بيروت 1402هـ: ج1 ص99.
    (2) تفسير القرآن الكريم، صدر المتألّهين الشيرازي، حقّقه وضبطه وعلّق عليه الشيخ محمّد جعفر شمس الدِّين، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1998م: ج7 ص93.


    صفحة 119
    ولعلّه يمكن إثبات هذه الحقيقة وهي أنّ للقرآن ظاهراً وباطناً، غيباً وشهادة، من خلال قوله تعالى: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (البقرة: 3)، وقوله: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) (هود: 123)، وقوله: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) (الأنعام: 73)، فقد علّق الشيرازي على ذلك بقوله: «فالله تعالى أوجد المُلك والشهادة لقضيّة اسمه «الظاهر» وأوجد الملكوت والغيب لقضيّة اسمه «الباطن» لأنّه هو (الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) (الحديد: 3)»، ثمّ قال: «إنّ موجودات العالم الطبيعي والنشأة الدنيويّة مثنويّة» (1).
    وحين تتحوّل هذه الثنائية إلى قانون وسنّة إلهيّة، وحيث إنّ السنن الإلهيّة لن تتبدّل ولن تتحوّل، لقوله: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّت اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر: 43)، إذن فلا يشذّ عنها وجود إمكانيّ في عالم الإمكان، ومن ثمّ فهي تشمل الإنسان والقرآن والعالم، بوصفها مظاهر لأسماء الله وصفاته.
    إذن فالقرآن بمجموعه له ظاهر وباطن، والسورة بمجموعها لها ظاهر وباطن، والآية بتمامها لها ظاهر وباطن، والجملة الواحدة في الآية ـ إن تألّفت الآية من أكثر من جملة ـ لها ظاهر وباطن، والكلمة في الآية لها ظاهر وباطن أيضاً. بل إنّ كلّ كلمة أو جملة أو آية أو سورة ـ إذا ما لوحظت بنظرة استقلاليّة ـ فإنّ لها ظاهراً وباطناً، وإذا ما لوحظت بنظرة مزجيّة (أي بلحاظ ما قبلها وما بعدها) فإنّ لها ظاهراً وباطناً آخرين وهكذا.
    وربما في ضوء هذه الاحتمالات الكثيرة المتداخلة قد عُبّر في بعض النصوص أنّ للقرآن بطناً وللبطن بطن إلى سبعة أبطن، بل إلى سبعين بطناً، بل إلى سبعين ألف بطن (2).
    ــــــــــ
    (1) تفسير القرآن الكريم، الشيرازي، مصدر سابق: ج7 ص105.
    (2) انظر نصّ النصوص، للسيّد حيدر الآملي، انتشارات طوس، الطبعة الرابعة: ص72؛ جامع الأسرار ومنبع الأنوار، الآملي: ص104، 530، 610.


    صفحة 120
    وهذا الترقّي في زيادة عدد البطون يستشفّ منه اختلاف المستويات المعرفيّة للسائلين أو المخاطبين بذلك، لأنّهم عليهم السلام أُمروا أن يكلِّموا الناس على قدر عقولهم، وطبقاً لذلك فإنّه لا غضاضة في إطلاق عدد البطون للقرآن، فلو قدّر أن يكون السائل أو المخاطب مستودعاً لإطلاق العدد، لقيل له: لا عدّ لبطونه. ويؤيّد ذلك بل يدلّ عليه أنّ مرجعيّة القرآن الكريم إلى أسماء الله الحسنى، والسير في الأسماء الإلهيّة ـ الذي هو مقتضى السفر الثاني وهو من الحقّ إلى الحقّ ـ لا حدّ له ولا نهاية (1).
    وفي ضوء ذلك يتّضح لنا جيّداً مضمون روايات كثيرة أشارت إلى هذا المعنى:
    - عن عليّ أمير المؤمنين عليه السلام قال: «لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً من تفسير فاتحة الكتاب» (2) فلو كان لسورة الفاتحة وجه واحد وهو الظاهر، فهل يحتاج هذا الأمر إلى سبعين بعيراً لحمل ما يمليه عليّ عليه السلام! وقد عبّر عليه السلام بكلمة «أوقرت» إشارة إلى ثقْل الحمل الذي سينوء بحمله سبعون بعيراً.
    - وعن جابر قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن شيء في تفسير القرآن، فأجابني، ثمّ سألته ثانياً فأجابني بجواب آخر، فقلت: جُعلت فداك، كنت أجبت في هذه المسألة بجواب آخر غير هذا قبل اليوم ؟
    فقال عليه السلام: يا جابر إنّ للقرآن بطناً، وللبطن بطن، وله ظهر وللظهر
    ــــــــــ
    (1) ينظر من الخلق إلى الحقّ، رحلات السالك في أسفاره الأربعة، من أبحاث السيّد كمال الحيدري، بقلم: طلال الحسن، الطبعة الأُولى، 1426هـ، دار فراقد للطباعة والنشر: ص115 ـ 129.
    (2) بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار: كتاب القرآن، باب أنّ للقرآن ظهراً وبطناً، الحديث 82 ، ج92 ص103.


    صفحة 121
    ظهر، يا جابر ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن» (1)
    وفي هذا النصّ نكتتان:
    أمّا الأُولى: فهي تأييده لوجود بطون للكتاب، كما هو واضح في أخذ جابر لأكثر من جواب.
    وأمّا الثانية: وهي المقصودة في المقام، فهي كون التفسير أبعد ما يكون من عقول الرجال، وما ذلك إلاّ لتداخل الوجوه وتعدّد الظهور والبطون.
    جديرٌ بالذِّكر أنّه بقدر تعدّد الباطن سوف يتعدّد الظاهر، فإنّ الباطن الأوّل هو باطن بلحاظ الظاهر الأوّل، وهو ظاهر ثانٍ بلحاظ الباطن الثاني، وإلاّ فإنّ لكلّ باطن ظاهراً، ولذا فظاهر الباطن اللاحق هو باطن ظاهر سابق وهكذا. وبهذا يكون الظهر والبطن أمرين نسبيّين، فكلّ ظهر بطن بالنسبة إلى ظهره وبالعكس.
    ولا ريب أنّ الإنسان مخاطب بما هو إنسان بجميع الخطابات القرآنيّة وبمختلف مراتبها ومنازلها، ولكن كلٌّ بحسبه، وحيث إنّ كلّ مرتبة توجب على صاحبها السير نحو المرتبة الأعلى منها طبقاً لمقتضى السير المعرفي، لذا ورد «اقرأ وارقأ» (2) والذي يمكن تسميته في المقام بالسير القرآني في قبال السير الأنفسي والسير الآفاقي ـ كما عرفت ـ .
    فإذا ما تقاعس الإنسان عن إدامة السير المعرفي القرآني، فإنّه سوف يكون مشمولاً لقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله القرآني ـ أيّاً كانت مرتبة التقاعس ـ وهو قوله تعالى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) (الفرقان: 30) وفي ذلك سرٌّ عظيم يدركه أولو الألباب.
    ــــــــــ
    (1) تفسير العيّاشي، مصدر سابق: ح 8 : ج1 ص87 .
    (2) بحار الأنوار: باب 8 (أنّ للقرآن ظهراً وبطناً)، الحديث 37، ج89 ص91.


    صفحة 122

فهرس الكتاب