Rss Feed

  1. عمق المفردة القرآنيّة هو عمق النصّ
    عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام وهو يصف القرآن: «ظاهره أنيق وباطنه عميق... لا تحصى عجائبه ولا تُبلى غرائبه» (1). فالقرآن هو المدرسة التي لا تنضب علومها أبداً، حارت فيه العقول، وضاقت عن نيله والإحاطة به المعارف، وما ذلك إلاّ لارتباطه بالله جلّت قدرته، فهو الوجود المطلق الذي لا تحدّه حدود، المحيط بكلّ شيء. ومن هذه الصفة المطلقة كباقي صفاته استمدّ القرآن صفاته في دائرة المعنى وفي دائرة التأثير، وهذا الاستمداد الصفاتي في المعنى والأثر يُقرّب لنا كلمة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: «فتجلّى سبحانه لهم في كتابه من غير أن يكونوا رأوه» (2)، فإذا كان المُتجلِّي مطلقاً فالمُتجلّى فيه كذلك .
    وهذا المعنى الرفيع يُثير أمامنا إشكاليّة فهم القرآن، فكيف للمحدود أن يُحيط بغير المحدود علماً ؟
    وهنا نجد الأعلام يختلفون في فهم الإشكاليّة والجواب عنها، فالتستري
    ــــــــــ
    (1) الكافي، مصدر سابق: الحديث 2، ج2 ص599.
    (2) نهج البلاغة، خطب الإمام عليّ عليه السلام، شرح محمّد عبده: ج2 ص30.


    صفحة 155
    يُنكر علينا فهم آية واحدة من كتاب الله تعالى بصورة تامّة، فكيف بالكتاب نفسه، حيث يقول: «لو أُعطي العبد بكلّ حرف من القرآن ألف فهم لم يبلغ نهاية ما أودعه في آية من كتابه، لأنّه كلام الله، وكلامه صفته، وكما أنّه ليس لله نهاية، فكذلك لا نهاية لفهم كلامه. وإنّما يفهم كلٌّ بمقدار ما يفتح الله عليه» (1)، فالفهم ولو في حدود آية واحدة يبقى محدوداً بحدود مقدار المتلقّي.
    ولسنا بصدد الإجابة عن ذلك نفياً أو تأييداً، فما نُريد الوقوف عليه هو ما يُمكن استجلاؤه من المفردة والنصّ القرآنيّين، وأنّ المُعطى المفرداتي ذو مرتبة واحدة، أم ذو مراتب كما هو الحال بالنسبة للنصّ ؟
    ما نميل إليه هو مراتبيّة معاني المفردة الواحدة فضلاً عن النصّ، فإنّ أرضيّة كلّ نصّ تتمثّل بالمفردات، وكلّ مفردة تدخل بصورة مباشرة في تركيبة وبنيويّة النصّ الداخلة فيه. فالاختلاف في قراءة النصّ، أو تحمّل النصّ الواحد وجوهاً ذات مراتب طوليّة، يعني مراتبيّة النصّ واختلاف درجات العمق فيها طوليّاً، وهذا يكشف لنا إنيّاً بأنّ هنالك مراتبيّة تُمثِّل اللبنة الأولى في إضفاء صفة المراتب الطوليّة في النصّ الواحد.
    إذن فالمفردة والنصّ القرآنيّان تتضافران في تشكيلة العمق القرآني، فلا تذهب عليك هذه المباني، ولا تغب عنك هذه المعاني.
    وبذلك نخلص إلى حقيقة معرفيّة قرآنيّة، وهي أنّ المعنى العامّ للمفردة والنصّ القرآنيّين واحد ولكنّه ذو مراتب على حدّ ما هو مقرّر فلسفيّاً ـ عند مدرسة الحكمة المتعالية ـ بأنّ حقيقة الوجود واحدة ولكنّها ذات مراتب.
    ــــــــــ
    (1) انظر: البرهان في علوم القرآن، بدر الدِّين محمّد بن عبد الله الزركشي، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، نشر دار إحياء الكتاب العربي، الطبعة الأولى، 1376هـ، القاهرة: ج1 ص9. وقد ورد ما هو قريب من هذا المعنى في تفسير مجاهد ابن جبر التابعي: ج1 ص9. علماً بأنّ المراد من التستري هو: سهل بن عبد الله التستري.

فهرس الكتاب