أهمّية البحث في المفردة القرآنيّة
اهتمّت علوم اللغة كثيراً بالمفردات القرآنيّة حتّى صُنّفت في ذلك كتب ورسائل منذ انطلاق العمليّة التفسيريّة، وقد نُسبت جملةٌ من تلك المصنّفات إلى المصنّفات التفسيريّة، وهي وإن كانت كذلك إلاّ أنّها لا تعدو حيّز التفسير المفرداتي الداخل في النطاق التفسيري الاصطلاحي ثانياً وبالعرض، أو بنحو من المجاز، أو بنوع توسّع في الاصطلاح.وهذه النسبة العرضيّة والمجازيّة والتوسّعيّة لا تلغي حقيقة وثمرة هذه العمليّة المُفرداتيّة وما تُشكِّله من مؤشّرات توجيهيّة لحركة النصّ القرآني (1)، ولعلّ هذا ما دعا البعض إلى إطلاق مفردة التفسير على هذه المصنّفات اللغويّة في مجال القرآن.
وعلى أيّ حال فإنّ معطيات مُصنّفات المفردات القرآنيّة أينما صُنّفت فإنّها تُمهّد للعمليّة التفسيريّة الاصطلاحيّة وتُهيّئ لها شروطاً لابدّ منها.
ومن هنا نلمح أهمّية البُعد المفرداتي في توجيه العمليّة التفسيريّة، حتّى عُدّ هذا البُعد ركناً أساسيّاً في جملة من التفاسير المعتبرة، ونحن إنّما نريد الوقوف عند هذا البُعد ليس لمجاراة البعض ممّن امتهنوا المواكبة والتقليد لما وصل إليهم، وإنّما التزاماً منّا بأسلوبنا التفسيري، حيث إنّنا سوف نسلك الأسلوب التركيبي ـ التجزيئي والموضوعي ـ إيماناً منّا بأهمّية الهدف الذي نصبو إليه والمتمثّل بالمُعطى القرآني للعمليّة التفسيريّة الذي نريد به تحديداً بيان المرادات النهائيّة أو القريبة منها للنصّ القرآني.
ــــــــــ
(1) تكرّر استعمال مفردة النصّ، والمراد بها المعنى العامّ الشامل للجملة القرآنيّة والآية والفكرة المستخرجة من أكثر من جملة أو آية.
صفحة 152
فالوقوف على المفردات القرآنيّة نعتبره حلقة مهمّة في بيان مرادات النصّ القرآني، فغير خفيٍّ على المطّلع مدى مدخليّة المفردة في تركيبة وبنيويّة الجملة، سواء ما تعلّق منها بالهيئة الجُمليّة أو بمادّتها، فلا تصل النوبة إلى المستوى الدلالي للجملة دون الفراغ من المستوى الدلالي لمفرداتها مستقلّة.وبيِّنٌ للمطّلع الأثر الكبير الذي يُحدثه الاختلاف في المُعطى الدلالي للمفردة القرآنيّة، سواء على مستوى التفسير أم التأويل.
إذا اتّضح لنا المراد من التفسير والتأويل في ما تقدّم من أبحاث، فإنّ مهمّة تقريب أثر الجهة المنظورة في قراءة النصّ ستكون يسيرة وعمليّة.
وينبغي الإشارة إلى أنّ التأويل يتبوّأ مكانةً أساسيّة ومركزيّة في رسم الخطوط البيانيّة الأولى لاستراتيجيّة قراءة النصّ القرآني، وأنّ كلمة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: (ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكم، أخبركم عنه، إنّ فيه علم ما مضى، وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون، فلو سألتموني عنه لعلّمتكم) (1) لعلّها تتضمّن إشارة إلى الجانب التأويلي. فالنصّ ببُعده الأوّل المتمثِّل بالعبارة ـ وهي مادّة العمليّة التفسيريّة ـ يُمكن استنطاقه ظاهراً، وما لا يمكن استنطاقه هو الأبعاد الأخرى المتمثِّلة بالإشارة واللطائف والحقائق ـ وهي مواد العمليّة التأويليّة ـ ولذلك يقول عليه السلام: إنّ فيه علم ما مضى، وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة.
وهذا يعني أنّ استنطاق النصّ القرآني والوصول إلى كينونته المقدّسة أمرٌ غير ممكن البتّة بدون الأخذ بالاعتبار البُعد التأويلي في قراءة النصّ.
إذا اتّضح لنا ذلك سوف تكون بيّنة لنا جملة من موارد الاختلاف في قراءة
ــــــــــ
(1) أصول الكافي، مصدر سابق: الحديث 7، ج1 ص61.
صفحة 153
المفردة القرآنيّة والنصّ القرآني خصوصاً والنصّ الديني عموماً.إنّ البُعد التأويلي وإن كان يبدو بحسب الظاهر غير معنيّ بالمعنى الدلالي للمفردة، إلاّ أنّ هذا التصوّر ـ على فرض وجوده ـ غير صحيح، فإنّ الوشائج التي تربط الظاهر بالباطن، والتفسير بالتأويل لابدّ أن تكون محفوظة لحفظ المُعطى التأويلي من الانحراف.
وبذلك لا تُعفى العمليّة التأويليّة من ملاحظة الوجه الدلالي للمفردة القرآنيّة، فإذا تُرك النظر في ذلك ستتوسّع رقعة الخلاف والاختلاف في قراءة النصّ القرآني.
ومن الواضح بأنّ تضييق دائرة الخلاف والاختلاف من خلال ملاحظة الوجوه الدلاليّة للمفردة القرآنيّة لا يعني أبداً رفع الاختلاف بين المُعطيين التفسيري والتأويلي، فإنّ اختلاف المُعطيين أمرٌ حتميّ لابدّ منه، وهذا الاختلاف لا يمكن حصره بمرتبة أو مرتبتين، وإنّما هي سلسلة من المراتب تعود في الغالب منها إلى مجموعة الاختلافات آنفة الذِّكر، ولكنّ للمنهج والمستوى المعرفي الذي عليه قارئ النصّ الأثر الأبرز في رسم ملامح الاختلاف.
إنّ الاختلافات الظاهريّة الدلاليّة لظاهر المفردات القرآنيّة مع المُعطى التأويلي ـ الباطن القرآني ـ ينبغي أن تتحوّل إلى همزات وصل تُصحّح لنا قراءة النصّ لا أن تُعمّق درجات التباين. فالمعنى التأويلي هو أشبه ما يكون بالصورة الظلّية للمعنى التفسيري، ولكن لا بمعنى أشرفيّة التفسير على التأويل، فهذا ما لا ينبغي تصوّره أبداً، وإنّما بمعنى قوّة الارتباط والاشتراك الفعلي في تتميم المُعطى القرآني. فالصورة الظاهريّة على أهمّيتها قاصرة على إعطاء الصورة القرآنيّة كما هي، كما أنّ الصورة الباطنيّة للنصّ هي الأُخرى قاصرة عن تتميم ذلك .
ومن هنا تُعقد وجوه المصالحة القراءتيّة، وتنتظم أمامنا الخطوط البيانيّة
صفحة 154
للصورة القرآنيّة، وتلتقي المقاطع المفصليّة لتنطق بالحقّ.وبذلك يكون قد ترشّد أمامنا القيمة المعرفيّة للقراءة التفسيريّة فيما لو أُخذت منفصلة ومستقلّة عن القراءة التأويليّة، وهكذا الحال في فصل واستقلال القراءة التأويليّة، بل لا تُوجد قراءة صحيحة كاملة للنصّ القرآني دون أن تتشكّل ملامحها من البُعدين التفسيري والتأويلي.
هذا ما أردنا إيجازه في تصوير منشأ الاختلاف في المعطى القرآني تاركين التفصيل فيه لمناسبة أخرى .