الفرق بين الرحمن والرحيم
هناك عدّة فروق بين هذين الاسمين:الأوّل: ذكر جمع من المفسّرين أنّ «الرحمن» من الأسماء الخاصّة به تعالى لا يسمّى به غيره، بخلاف مثل الرحيم والراحم. وممّا يرشد إلى هذا الفرق أنّنا لا نجد في القرآن موضعاً جيء باسم «الرحمن» لسواه تعالى، بل في كلّ مواضع استعماله عنى به نفسه المتعالية. أمّا اسم «الرحيم» فقد وصف به رسوله الكريم صلّى الله عليه وآله؛ قال تعالى: (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة: 128)، ووصف به المؤمنين أيضاً، قال جلّ جلاله: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (الفتح: 29)، وهو جمع «رحيم» كشرفاء جمع شريف. فجاز وصف سواه به، وكذا تسميته دون اسم «الرحمن» فإنّه لا يجوز التسمية لغير الله تعالى. وهذا ما نطقت به بعض الروايات أيضاً. روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «الرحمن اسم خاصّ لصفة عامّة، والرحيم اسم عامّ لصفة خاصّة» (1).
الثاني: إنّ لفظ «الرحمن» في موضع الانفراد يغلب عليه العلميّة على حدّ لفظ الجلالة؛ قال تعالى: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ) (الرحمن:1 ـ 2)، (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه: 5)، (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً) (الزخرف: 36) ، (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ ...) (الفرقان: 63) وغيرها، حيث تجد بها الدلالة الكاملة على الذات المقدّسة كدلالة لفظ الجلالة التي تعطي العلميّة جليّاً بدون خفاء.
ولعلّ في قوله تعالى: (قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) (الإسراء: 110) ما يدلّ على هذه الحقيقة. فإنّ سبب نزول هذه الآية
ــــــــــ
(1) تفسير الصافي، مصدر سابق: ج1 ص69.
صفحة 228
أنّ الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله كان من دعائه وهو بمكّة: «يا الله يا رحمن» فاعترض المشركون عليه وقالوا: انظروا إلى هذا الصابي ينهانا أن ندعو إلهين، فنزلت آية التسوية بأنّ «الله والرحمن» اسمان له تعالى، وأنّهما سيّان في الدلالة على الله تعالى ـ على رواية ابن عبّاس» (1).لذا قيل: إنّ كلمة «الرحمن» بمنزلة اللقب من الله سبحانه فلا تطلق على غيره تعالى، ومن أجل ذلك استعملت في كثير من الآيات الكريمة من دون لحاظ مادّتها؛ قال سبحانه: (قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ) (يس: 15)، (إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنقِذُونِ) (يس: 23)، (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) (يس: 52)، (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) (الملك: 3)، وممّا يقرّب اختصاص هذا اللفظ به قوله تعالى: (رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) (مريم: 65)، فإنّ الملحوظ أنّ الله تعالى قد اعتنى بكلمة «الرحمن» في سورة مريم حتّى كرّرها فيها ستّ عشرة مرّة، وهذا يقرّب أنّ المراد بالآية الكريمة أنّه ليس لله سميّ بتلك الكلمة.
وأمّا عند الانضمام إلى «الله» في غير آية التسوية مثل (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أو إلى «الرحيم» في غير البسملات مثل قوله تعالى: (تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (فصّلت: 2)، و(هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) (الحشر: 22)، فإنّ الغالب على لفظ «الرحمن» الوصفيّة دون العلميّة. هذا كلّه بالنسبة إلى لفظ «الرحمن» في موضع العلميّة أو الوصفيّة بانضمامه إلى اسم آخر أو انفراده.
أمّا اسم «الرحيم» ففي المواضع كلّها هو وصف له تعالى، ولا يوجد في
ــــــــــ
(1) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للعلاّمة أبي الفضل شهاب الدِّين السيّد محمود الآلوسي البغدادي (المتوفّى 1270هـ)، قرأه وصحّحه محمد حسين العرب، بإشراف هيئة البحوث والدراسات، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع: ج 9 ص275.
صفحة 229
القرآن موضع ذكر منفرداً، بل هو دائماً منضمّ إلى اسم «الربّ» أو «الغفور» أو «الودود» كبقيّة أسمائه الحسنى المنضمّ بعضها إلى بعض مثل قوله: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور: 62)، (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الشعراء: 9)، (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) (سبأ: 15)، فهذه الآيات وغيرها متماثلة في الجهة الوصفية والدلالة عليه بالانضمام إلاّ في صورة النداء أو الاستغاثة أو اليمين أو غيرها ممّا له الانطباق الذاتي عليه تعالى كقولك: «ياربّ، يا رحيم» وغير ذلك.وهذا التحليل الذي ذكر في هذا الفرق إنّما هو من باب ظهور الأسماء والأوصاف، وأمّا التحقيق الواقعي وبالذات فالكلّ ينتهي إليه تعالى، لا يبقى لأحد من جمال أو كمال أو حسن إلاّ ويرجع إلى الله وحده.
الثالث: التمييز بين هذين الاسمين من خلال دلالتهما على الرحمة الثابتة له تعالى، وقد ذكرت في كلمات الأعلام وجوه:
الوجه الأوّل: أنّ «الرحمن» صيغة مبالغة تدلّ على ثبوت الرحمة وكثرتها، و«الرحيم» صفة مشبّهة تدلّ على الثبات والبقاء، ومن خصائص صيغة «فعلان» أنّها تستعمل في اللغة للصفات العارضة مثل: «عطشان، غرثان، غضبان» أمّا صيغة فعيل فإنّها تستعمل غالباً في الغرائز واللوازم غير المنفكّة كالأخلاق والسجايا في الناس مثل: «عليم، حكيم، حليم، قدير، شريف، وضيع، سخيّ، بخيل...». وعليه فالفارق بين الصفتين: أنّ «الرحيم» يدلّ على لزوم الرحمة للذات وعدم انفكاكها عنها، و«الرحمن» يدلّ على ثبوت الرحمة فقط.
فإن قيل: إنّ هذا التمييز وإن كان صحيحاً بالنسبة إلى ذات اللفظين حين الإطلاق على المخلوق، وأمّا من حيث إضافتهما إلى الله عزّ وجلّ فلا وجه للمبالغة بالنسبة إليه تعالى، لأنّ صفاته بالنسبة إليه تعالى غير محدودة فلا تجري المبالغة فيها.
صفحة 230
قلنا: إنّ الرحمة إن كانت من الصفات الذاتية التي هي عين الذات، فالأمر كما قيل إنّها غير متناهية؛ لعدم تناهي الذات المقدّسة، إلاّ أنّ الرحمة هي من الصفات الفعليّة لا الذاتيّة، ومن الواضح أنّ الصفة الفعليّة لها حدّ تنتهي إليه، من هنا نحتمل الصفة المقابلة لها.- عن صفوان عن الكاهلي قال: «كتبت إلى الإمام أبي الحسن الرضا
عليه السلام في دعاء: الحمد لله منتهى علمه، فكتب إليّ: لا تقولنّ منتهى علمه، ولكن قُل: منتهى رضاه» (1).
هذا مضافاً إلى أنّ القرآن لا يخرج عن الأسلوب العربي البليغ في الحكاية عن صفات الله عزّ وجلّ التي تعلو عن مماثلة صفات المخلوقين. فلفظ «الرحمن» يدلّ على من تصدر عنه آثار الرحمة بالفعل وهي إفاضة النعم والإحسان، ولفظ «الرحيم» يدلّ على منشأ هذه الرحمة والإحسان، وعلى أنّها من الصفات الثابتة له تعالى، وبهذا لا يستغنى بأحد الوصفين عن الآخر ولا يكون الثاني مؤكّداً للأوّل.
بعبارة أخرى: إذا وُصف الله ـ جلّ ثناؤه ـ بـ «الرحمن» فإنّه يفهم منه أنّه المفيض للنِّعم فعلاً، لكن لا يثبت أنّ الرحمة من الصفات الثابتة له دائماً؛ لأنّ الفعل قد ينقطع إذا لم يكن عن صفة لازمة ثابتة وإن كان كثيراً، فإذا أضيف إليه «الرحيم» يعلم أنّ لله صفة ثابتة هي الرحمة التي عنها يكون أثرها وإن كانت تلك الصفة على غير صفات المخلوقين، فيكون ذكرها بعد «الرحمن» للتدليل على أنّ هذه الإنعامات دائميّة عامّة لعامّة العالم، لأنّ منشأها صفة دائميّة ثابتة، ومقتضى ثبوت العلّة ثبوت المعلول وبدوامها دوامه. وبهذا تتّضح نكتة الجمع بين هذين الاسمين الكريمين بهاتين الصيغتين.
ــــــــــ
(1) بحار الأنوار: كتاب التوحيد، باب العلم وكيفيّته والآيات...، حديث 12، ج4ص83.
صفحة 231
الوجه الثاني: إنّ الرحمن الرحيم هما اسمان مشتقّان من الرحمة وهي النعمة التي يستحقّ بها العبادة، وهما موضوعان للمبالغة، وفي «رحمن» خاصّة مبالغة يختصّ الله بها. وقيل: إنّ تلك المزيّة من حيث فعل النعمة التي يستحقّ بها العبادة لا يشاركه في هذا المعنى سواه. وقيل في معنى الرحيم: لا يكلّف عباده جميع ما يطيقونه، فإنّ المَلك لا يوصف بأنّه رحيم إذا كلّف عبيده جميع ما يطيقونه.وإنّما قدّم «الرحمن» على «الرحيم» لأنّ وصفه بالرحمن بمنزلة اسم العلم من حيث لا يوصف به إلاّ الله تعالى، فصار بذلك كاسم العلم في أنّه يجب تقديمه على صفته.
الوجه الثالث: إنّ الرحمة الرحمانيّة، عبارة عن إفاضة الوجود على الأشياء وإبقائها وإكمالها بالكمالات اللائقة بفطرتها، وهذا عامّ لجميع الأشياء دنيويّة كانت أو أخرويّة، أناسي كانت أو غيرها، ولذلك قال: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه: 5) حيث أشارت إلى أنّ مقام الاستواء على العرش ـ الذي هو إحاطة ملكه بكلّ شيء وانبساط تدبيره على الأشياء، سماويّها وأرضيّها، جليلها ودقيقها، خطيرها ويسيرها ـ إنّما هو من آثار مقام الرحمة الرحمانيّة.
بخلاف الرحمة الرحيميّة فإنّها مختصّة بالإنسان ومن كان مثله سالكاً إلى الرحمن، وبحال كونه على رضاه. وبتعبير آخر: إفاضة الكمالات الاختياريّة المرضية على المختارين من الإنس والجنّ.
وهناك جملة من الروايات تثبت هذا المعنى:
- عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله الصادق عليه السلام عن (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فقال: «الله: إله كلّ شيء، الرحمن: بجميع خلقه، والرحيم: بالمؤمنين خاصّة» (1).
ــــــــــ
(1) تفسير الصافي، الكاشاني: ج1 ص69.
صفحة 232
- وعن الصدوق بإسناده إلى الإمام العسكري عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «الرحمن: الذي يرحم ببسط الرزق علينا، العاطف على خلقه بالرزق لا يقطع عنهم موادّ رزقه وإن انقطعوا عن طاعته. الرحيم بنا في أدياننا ودنيانا وآخرتنا، خفّف علينا الدِّين وجعله سهلاً حنيفاً، وهو يرحمنا بتمييزنا من أعدائه» (1).- من هنا حاول البعض أن يفسّر ما روي عن أبي عبد الله الصادق
عليه السلام أنّ «الرحمن اسم خاصّ بصفة عامّة، والرحيم اسم عامّ بصفة خاصّة» بهذا الوجه حيث قيل: إنّ المراد من قوله عليه السلام: «الرحمن اسم خاصّ» أي لا يطلق على غيره تعالى، والمقصود من قوله: «بصفة عامّة» لأنّ رحمته وسعت كلّ شيء. و«الرحيم اسم عامّ» لإطلاقه على غيره تعالى أيضاً. والصفة الخاصّة يعني اختصاصها بالمؤمنين.
ومن أهمّ النتائج المترتّبة على هذا الوجه أنّ الرحمة الرحيميّة تختصّ بالرضا الذي يقابل الغضب، بخلاف الرحمة الرحمانيّة فإنّها تشمل الرضا والغضب الإلهي، لأنّها إفاضة الوجود بحسب استعداد المحلّ، وهو قد يصير غضباً كما في الإنسان العاصي، وقد يكون رضاً كما في المطيع.