الرابعة: جواب العرفاء عن إشكالية تحصيل الحاصل
لكي يتّضح جواب إشكالية تحصيل الحاصل من قول المؤمن (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) على أساس الرؤية العرفانية، لابدّ من الإشارة إلى أنّ الإنسان ـ وهو في هذه النشأة ـ يعيش أسفل سافلين في سُلّم نشآت عالم الإمكان؛ قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) (التين: 4 ـ 5) فعليه بعد أن تبيّن له الهدف والطريق الموصل إليه، أن يصعد إلى الأعلى؛ قال تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (فاطر: 10).ومن الواضح أنّ هذا الصعود ليس مكانياً بل هو معنويّ، ذلك أنّ
صفحة 379
الارتفاع والصعود إلى الأعلى، تارة يكون مكانياً كما لو صعد الإنسان على مرتفع من الأرض مثلاً، وأخرى يكون معنوياً كما في قوله في حقّ إدريسعليه السلام (وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً) (مريم: 57) إذ ليس المراد هو الارتفاع المكاني بل ارتفاع مكانته عند الله تعالى، ولازم ذلك هو السفر والحركة المعنوية من هذه النشأة، متوجّهاً إلى المقصد ـ الذي هو القرب الإلهي ولقاء الربّ تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (الكهف: 110) ـ بطيّ المنازل الملكية والملكوتية والجبروتية واللاهوتية.
ومبدأ هذا السفر في قوس الصعود إنّما هو هذه النشأة المادّية. لذا قال أهل المعرفة إنّ السفر الأول إنّما هو من الخلق إلى الحقّ، وفي هذا السفر يغادر الإنسان عالم المادّة والطبيعة، عاقداً العزم على الهجرة إلى الله: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (النساء: 100) إنها رحلة الخلاص من بيت الدنيا والأنانية والشهوات إلى عالم الحقّ والاندكاك فيه، فيكون وليّاً، وعندئذ تحصل اليقظة من عالم النوم والسبات، والإبصار من عالم العمى، والالتفات من عالم الغفلة، والتذكّر من عالم النسيان. إنها رحلة من المتناهي إلى اللامتناهي.
وهذه هي رحلة العود الخالد من أرض الغربة إلى الوطن الأصلي، وبهذه الرحلة يحصل الموت الاختياري (يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) وهو الموت الذي أشار الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وندب إليه بقوله: «موتوا قبل أن تموتوا» (1) فطوبى من أمات نفسه وله حسن مآب.
وإذا بلغ السالك هذا المقام بحيث تخلّص من أناه وصار وجوده حقانيّاً، ولم يعد يرى في الوجود سوى الله تعالى، فاحتجبت الكثرة عنه بالوحدة،
ــــــــــ
(1) بحار الأنوار، مصدر سابق: ج72، ص59.
صفحة 380
وصار وجوده لله تعالى، ولم تعد هنالك شركة للشيطان فيه، فخرج عن دائرة (وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ) (الإسراء: 64) واستعاد كلّه من غاصبه وأعاد الحقّ إلى نصابه، فصار قلبه حرم الله تعالى، وصار الله مأواه وملاذه ومحطّ رحاله، إذا تحقّق ذلك للسالك فإنه يكون قد شرع في سفره الثاني، وهو السير في الحقّ بالحقّ أو من الحقّ إلى الحقّ بالحقّ.والحاصل فإنّ السفر الثاني هو سفر السالك في الوحدة الحقّة والعلّة التامّة والمؤثّر الحقيقي، وحيث إن الحقّ له ذات وأسماء وصفات وأفعال، فإنّ السالك يبدأ بالتعرّف والتحقّق في ذلك، فيُبصر أفعال الله تعالى بمعانيها الدقيقة، فينتهي إلى فناء أفعاله الشخصية بأفعال الله تعالى، ويُبصر صفات الله تعالى فتفنى صفاته الشخصية بصفات الله تعالى، ثم تبقى ذاته ـ وهي مجرّدة عن أفعاله وصفاته ـ فيبصرها متعلّقة بذات الله تعالى، فتفنى ذاته في ذاته تعالى.
وهذا لا يكون إلا بعد أن يكون العبد في مسيره اللامتناهي هذا مظهراً لتلك الأسماء، وذاتاً متلبّسة بتلك الصفات، فيتنقّل العبد السالك من غصن إلى غصن ومن واحة إلى واحة على نحو الترقّي، فيطوي في الأسماء العلوية حتى يكون مظهراً لما دونها من أسماء طبقاً لحاكمية بعض الأسماء على الأخرى، وهكذا في الصفات والأفعال الإلهيّة.
ومن أهمّ خصوصيات هذا السفر: أنّ السالك فيه، نظراً لكون المبدأ والمنتهى فيه واحداً وهو الحقّ تعالى، وأنّ الحقّ تعالى غير متناهٍ، فلازم كلّ ذلك أن يكون سير السالك غير متناهٍ أيضاً. وحيث إن السفر فيه غير متناه، فإنّ الزاد مهما عظم فيه فهو قليل، وإنّ المقصد مهما حثّ السالك نحوه الخُطى فهو بعيد.
ولعلّ أعظم من ترجم لنا ذلك السير هو عليّ أمير المؤمنين عليه السلام
صفحة 381
حيث يقول فيه: «آه من قلّة الزاد، وطول الطريق، وبُعد السفر» (1) من هنا قال جملة من الأعلام: إن آهات سيد الموحّدين عليه السلام إنّما كانت للسفر الثاني، لعلمه بأنه سفر لا نهاية له، وإنّ كل سالك يأخذ منه بحسب قدر وعائه الوجودي. ومعنى ذلك فأي درجة كمالية بلغها السالك في سيره الصعودي فإنه يطلب المزيد من الهداية التكوينيّة الخاصّة، ولا ينتهي به الدعاء إلى مرتبة ليس فوقها مرتبة.وبهذا يتّضح أنّ كلّ من كان على الصراط، بل ومن كان هو المصداق الأتمّ للصراط المستقيم، فإنّه يمكن أن يطلب المزيد حتى لو كان خاتم الأنبياء والمرسلين وأفضل الخلائق أجمعين، ولا يلزمه منه تحصيل الحاصل، ولذا قال تعالى على لسان نبيّه صلّى الله عليه وآله: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (طه: 114) وهذا ينسجم تماماً مع ما ذكرنا أنّ من أهمّ خصوصيات أصحاب الصراط أنّ لهم من العلم بمقام ربّهم ما ليس لغيرهم.
ومن أهمّ النتائج المترتّبة على ما تقدّم: اختلاف مراتب السالكين، فقد تقدّم أنّ سير السالك في السفر الثاني غير متناهٍ، وأنّ كلّ سالك يغترف في هذا السفر بحسب حجم وعائه وقدره: (أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) (الرعد: 17) وحيث إنّ الأوعية تحمل ما أمكنها حمله، وأنّ الأودية تحمل من الماء بقدر سعتها، فهذا يعني أنّ المراتب والمقامات سوف تختلف من سالك إلى آخر.
على هذا فمقامات أولي العزم والأنبياء والأوصياء والأولياء وسائر السالكين إنّما تتحدّد من خلال هذا السفر الثاني، فبقدر سير وهمّة السالك في هذا السفر وحجم وعائه وجهاده يكون مقامه، وكلّما كان السعي حثيثاً
ــــــــــ
(1) نهج البلاغة: الحكمة 77، ص156.
صفحة 382
والجهاد عظيماً انفتحت أمامه آفاق وسبُل: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت: 69).ومن الجدير بالذكر أنّ أقصى ما وصل إليه الإنسان في هذا السفر وأكثر ما اغترفه من معارف التوحيد وتشرّب بها هو الرسول الأعظم، فكان له مقام القطبية ومقام الخاتمية في عالم الإمكان، فهو صلّى الله عليه وآله الصادر الأوّل في قوس النزول، وهو القطب والخاتم، فما بعد مقامه مقام أو درجة في قوس الصعود، ويأتي تلوه أوصياؤه وورثة علمه أئمّة أهل البيت عليهم السلام.