الثالثة: درجات الهداية، رؤية عرفانية
للاهتداء درجات ثلاث:1 ـ معرفة طريق الخير والشرّ المشار إليه بقوله تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد: 10)، وقد أنعم الله به على الخلق كافّة، بعضه بالعقل وبعضه على لسان الكتب والرسل، ولذلك قال: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) (فصّلت: 17) فأسباب الهدى هي الكتب والرسل وبصائر العقول ـ وهي مبذولة للجميع ـ ولهذا كُلّفوا بتكليف واحد، وتساووا في أسباب سلوك طريق النجاة بهذه الهداية العامّة.
2 ـ هي التي يمدّ الله بها العبد حالاً بعد حال، وهي ثمرة المجاهدة حيث قال: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت: 69) وهو المراد بقوله: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى) (محمد:17).
والعبد المهتدي بهذه الدرجة من الهداية، إنّما هو المسافر من الخلق إلى الحقّ تعالى بقدم المجاهدة بطرح العالمين بل بطرح ما سواه تعالى مطلقاً، وهذه الدرجة مقدّمة معدّة للتلبّس بالدرجة الثالثة من الهداية، وأمّا الدرجة الأولى من الهداية فهي عامّة تشمل السالك وغيره، أما في حقّ غير السالك فهي
صفحة 377
ملاك نجاتهم من الهلاك الأبدي بوصولهم بها إلى ضرب من النعيم والتنعّم الجسماني، بتفاوت درجات هذا النعيم، وأمّا في حقّ السلّاك المسافرين فهي مقدّمة إعدادية أيضاً للوصول إلى الدرجة الثانية، كما هو الحال في الثانية بالنسبة إلى الثالثة.3 ـ وهي النور الذي يشرق في عالم الولاية بعد كمال المجاهدة، فيهتدي بها إلى ما لا يهتدي إليه بالعقل الذي يحصل به التكليف وإمكان تعلّم العلوم، وهو الهدى المطلق، وما عداه حجاب له ومقدّمات، وهو الذي شرّفه الله تعالى بتخصيص الإضافة إليه ـ وإلّا كان الكل منه وبه ـ فقال: (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى) (البقرة: 120) وهو المسمّى حياة في قوله: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) (الأنعام: 122).
على أنّ هناك حياة خاصّة لطبقة من المؤمنين العارفين بالله، زائدة على الحياة العامّة التي يشترك فيها المؤمن مع غيره ممن لم يتوفّر على هذه الدرجة من المجاهدة. وهذا هو الذي يظهر من مثل قوله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (المجادلة: 22).
وليست هذه الروح مغائرة للروح الإنسانية العامّة بالعدد، وإنّما هي مغائرة لها بحسب المرتبة والدرجة على نحو التشكيك الخاصّي.
ومن كان هذا شأنه فإنّه يرى ما لا يراه الناس، ويسمع ما لا يسمعونه، ويعقل ما لا يعقلونه، ويريد ما لا يريدونه، وإن كانت ظواهر أعماله وصور حركاته وسكناته تحاكي أعمال غيره وحركاتهم وسكناتهم وتشابهها. فله شعور وإرادة فوق ما لغيره من الشعور والإرادة، فعنده من الحياة ـ التي هي منشأ الشعور والإرادة ـ ما ليس عند غيره من الناس. فللمؤمن مرتبة من
صفحة 378
الحياة ليست عند غيره.وهؤلاء هم المقرّبون الفائزون بقربه تعالى، إذ لا يحول بينهم وبين ربّهم شيء مما يقع عليه الحسّ أو يتعلّق به الوهم أو تهواه النفس أو يلبسه الشيطان، فإنّ كلّ ما يتراءى لهم ليس إلاّ آية كاشفة عن الحقّ المتعال لا حجاباً ساتراً، فيفيض عليهم ربّهم علم اليقين ويكشف لهم مما عنده من الحقائق المستورة عن هذه الأعين المادية العمية بعدما يرفع الستر فيما بينه وبينهم كما يشير إليه قوله تعالى: (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) (المطفّفين: 18 ـ 21) وقوله: (كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ) (التكاثر: 5 ـ 6).
ثم إنّ هذه الدرجات الثلاث مترتّبة طولاً، بمعنى أنّ من لم تحصل له الأولى لا تحصل الثانية، ومن لم تحصل الثانية لا تحصل له الثالثة. ومن حصلت له الثالثة فقد حصلت له التي قبلها، ثم ينعكس فقد تحصل الأولى ولا تحصل الثانية والثالثة وهكذا.