البحث السابع: السبب في كون «الحمد» مرفوعاً لا منصوباً
اتّفقت جميع القراءات المرويّة ـ إلاّ ما شذَّ منها ـ على كون «الحمد» مرفوعاً بالابتداء، وقوله «لله» خبره. و«الحمد» من المصادر التي أتت بدلاً عن أفعالها في معنى الإخبار، فأصله النصب على المفعوليّة المطلقة على أنّه بدل من فعله، وتقدير الكلام «نحمد حمداً لله» فلذلك التزموا حذف أفعالها معها.قال سيبويه: «هذا باب ما يُنصب من المصادر على إضمار الفعل غير المستعمل إظهاره، وذلك قولك: سقياً ورعياً وخيبةً وبؤساً، وإنّما ينتصب هذا وما أشبهه إذا ذكُر مذكور، فدعوت له أو عليه على إضمار الفعل، كأنّك قلت: سقاك الله سُقياً ورعاك الله رعْياً وخيّبك الله خيبةً، فكلّ هذا وما أشبهه على هذا ينتصب، وإنّما اختزل الفعل هاهنا لأنّهم جعلوه بدلاً من اللفظ كما جُعل
ــــــــــ
(1) الأصول من الكافي: كتاب الإيمان والكفر، باب الشكر، الحديث 14، ج2 ص96.
الحذر بدلاً من إحذر» (1).
ثمّ قال بعد أبواب: «هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره من المصادر في غير الدعاء، من ذلك قولك: حمداً وشكراً، لا كفراً وعجباً، فإنّما ينتصب هذا على إضمار الفعل، كأنّك قلت: أحمد الله حمداً وأشكر الله شكراً، وإنّما اختزل الفعل هاهنا لأنّهم جعلوا هذا بدلاً من اللفظ بالفعل كما فعلوا ذلك في باب الدعاء، كأنّ قولهم «حمداً» في موضع «أحمد الله»... وقد جاء بعض هذا رفعاً يُبتدأ به ثمّ يبنى عليه (أي يخبر عنه)» (2).
ثمّ قال بعد باب آخر: «هذا باب يختار فيه أن تكون المصادر مبتدأة مبنيّاً عليها ما بعدها، وذلك قوله: «الحمدُ لله» والعجبُ لك، والويل لك، والخيبةُ لك. وإنّما استحبّوا الرفع فيه لأنّه صار معرفة وهو خبر (أي أنّه ليس بإنشاء) فقوي في الابتداء (أي أنّه لمّا كان خبراً لا دعاءً، وكان معرفة بـ «ألـ» ، تهيّأت فيه أسباب الابتداء، لأنّ كونه في معنى الإخبار يهيّئ جانب المعنى للخبريّة، وكونه معرفة يصحّح أن يكون مبتدأ) بمنزلة عبد الله، والرجل، والذي تعلم؛ لأنّ الابتداء إنّما هو خبر، وأحسنه إذا اجتمع معرفة ونكرة أن تبدأ بالأعرف وهو أصل الكلام.
وليس كلّ حرف (أي تركيب) يُصنع به ذاك، كما أنّه ليس كلّ حرف (أي كلمة من هذه المصادر) يدخل فيه الألف واللام من هذا الباب، فلو قلت الشقي لك والدعيُ لك لم يجز».
ثمّ قال: «واعلم أنّ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وإن ابتدأته (أي جعلته مبتدأ) ففيه معنى المنصوب، وهو بدل من اللفظ بقولك: أحمد الله. وسمعنا ناساً من
ــــــــــ
(1) كتاب سيبويه، نشر أدب الحوزة، 1404هـ: ج1 ص184.
(2) المصدر السابق: ج1 ص188.
صفحة 254
العرب كثيراً يقولون: الترابَ لك والعجبَ لك، فتفسير نصب هذا كتفسيره حيث كان نكرة، كأنّك قلت: حمداً وعجباً، ثمّ جئت بـ «لك» لتبيّن من تعني ولم تجعله مبنيّاً عليه فتبتدئه» (1).وهذا ما أشار إليه الزمخشري في «الكشّاف» قال: «وارتفاع الحمد بالابتداء وخبره الظرف الذي هو لله، وأصله النصب الذي هو قراءة بعضهم بإضمار فعله على أنّه من المصادر التي تنصبها العرب بأفعال مضمرة في معنى الإخبار، كقولهم: شكراً وكفراً وعجباً وما أشبه ذلك. ومنها: سبحانك ومعاذ الله، ينزلونها منزلة أفعالها ويسدّون بها مسدّها، لذلك لا يستعملونها معها ويجعلون استعمالها كالشريعة المنسوخة» (2).
أمّا وجه العدول من الأصل ـ الذي هو النصب ـ إلى الرفع، فهو أنّ بلغاء العرب لا يعدلون عن الأصل إلاّ وهم يرمون إلى غرض عدلوا لأجله، وهو في المقام:
أوّلاً: للدلالة على الدوام والثبات بجعل الجملة الفعليّة اسميّة.
قال الزمخشري: والعدول بها عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات المعنى واستقراره. ومنه قوله تعالى: (قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ) (هود: 69) رفع السلام الثاني للدلالة على أنّ إبراهيم عليه السلام حيّاهم بتحيّة أحسن من تحيّتهم، لأنّ الرفع دالّ على معنى ثبات السلام دون تجدّده وحدوثه» (3).
وثانياً: للدلالة على العموم المستفاد في المقام من «الألف واللام» الجنسيّة، كما سيأتي.
ــــــــــ
(1) المصدر السابق: ج1 ص194.
(2) الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، وهو تفسير القرآن: للإمام جاد الله محمود بن عمر الزمخشري، المتوفّى 528هـ: ج1 ص9.
(3) المصدر السابق.
صفحة 255
وثالثاً: للدلالة على الاهتمام المستفاد من التقديم.ومن الواضح أنّه لا يمكن استفادة هذه الأُمور لو بقي المصدر منصوباً، إذ النصب يدلّ على الفعل المقدّر، والمقدّر كالملفوظ فلا تكون الجملة اسميّة، إذ الاسم فيها نائب عن الفعل فلا يفيد الدوام، ولأنّه لا يصحّ معه اعتبار التقديم فلا يحصل الاهتمام، ولأنّه وإن صحّ اجتماع الألف واللام مع النصب ـ كما قُرئ بذلك، وهي لغة تميم كما قال سيبويه (1) ـ فالتعريف حينئذ لا يكون دالاًّ على عموم المحامد، لأنّه إن قدّر الفعل أحمدُ ـ بهمزة المتكلِّم ـ فلا يعمّ إلاّ تحميدات المتكلّم دون ما يحمده جميع الحامدين ـ كما تقدّمت الإشارة إليه ـ وإن قدّر الفعل نحمدُ ـ واُريد بالنون جميع المؤمنين بقرينة قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) وقوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فإنّما يعمّ محامد المؤمنين أو محامد الموحّدين كلّهم، ولا يشمل غيرهم.
أمّا إذا صار الحمد غير جارٍ على فعل، فإنّه يصير الإخبار عن جنس الحمد بأنّه ثابت لله، فيعمّ كلّ حمد من كلّ حامد ـ كما سيأتي لاحقاً ـ .
وبهذا يتّضح معنى ما نقل عن سيبويه أنّه قال: «إنّ الذي يرفع (الْحَمْدُ) يخبر أنّ الحمد منه ومن جميع الخلق، والذى ينصب يُخبر أنّ الحمد منه وحده لله تعالى».