Rss Feed

  1. البحث الثامن: إنّ «الألف واللام» في «الحمد» للجنس أم الاستغراق؟
    الظاهر أنّ التعريف هنا هو تعريف الجنس، لأنّ المصدر هنا في الأصل - كما تقدّم - عوض عن الفعل، فلا جرم أن يكون الدالّ على الفعل والسادّ مسدّه دالاًّ على الجنس، فإذا دخل عليه اللام فهو لتعريف مدلوله، لأنّ اللام
    ــــــــــ
    (1) كتاب سيبويه، باب يختار فيه أن تكون المصادر مبتدآت مبنيّاً عليها ما بعدها، وما أشبه المصادر من الأسماء والصفات: ج1 ص195.

    صفحة 256
    تدلّ على التعريف للمسمّى، فإذا كان المسمّى جنساً فاللام تدلّ على تعريفه.
    ومعنى تعريف الجنس أنّ هذا الجنس هو معروف عند السامع، فإذا قلت: الحمد لله، أو العجب لك، فكأنّك تريد أنّ هذا الجنس معروف لديك ولدى مخاطبك لا يلتبس بغيره، كما أنّك إذا قلت: الرجل، وأردت معيّناً في تعريف العهد النحوي، فإنّك تريد أنّ هذا الواحد من الناس معروف بينك وبين مخاطبك، فهو في المعنى كالنكرة من حيث إنّ تعريف الجنس ليس معه كبير معنىً، إذ تعيّن الجنس من بين بقيّة الأجناس حاصل بذكر لفظه الدالّ عليه لغةً، وهو كافٍ في عدم الدلالة على غيره، إذ ليس غيره من الأجناس بمشارك له في اللفظ ولا متوهّم دخوله معه في ذهن المخاطب، بخلاف تعريف العهد الخارجي فإنّه يدلّ على واحد معيّن بينك وبين مخاطبك من بين بقيّة أفراد الجنس التي يشملها اللفظ .
    وبهذا يتبيّن أنّ التعريف الداخل على الجنس لا يفيد إلاّ توكيد اللفظ وتقريره وإيضاحه للسامع، لأنّك لمّا جعلته معهوداً فقد دللت على أنّه واضح ظاهر، وهذا يقتضي الاعتناء بالجنس وتقريبه ممّا هو معروف عند المخاطب.
    وبما تقدّم لا يمكن أن تكون الألف والتعريف هنا للاستغراق، لذا قال الزمخشري: «فإن قلت: ما معنى التعريف في الحمد، قلت: هو تعريف الجنس ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كلّ أحد من أنّ الحمد ما هو. والاستغراق الذي يتوهّمه كثير من الناس وهْم منهم» (1).
    إلاّ أنّه قد يُقال: إنّ معنى الاستغراق حاصل هنا، وذلك لأنّ الحكم باختصاص جنس الحمد به تعالى لوجود لام التعريف الجنس في قوله: «الحمد لله» ولام الاختصاص أو الملك في قوله «لله» يستلزم انحصار أفراد الحمد فيه
    ــــــــــ
    (1) الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل، مصدر سابق: ج1 ص9.

    صفحة 257
    تعالى، لأنّه إذا اختصّ الجنس اختصّت الأفراد، إذ لو تحقّق فرد من أفراد الحمد لغير الله تعالى لتحقّق الجنس في ضمنه، فلا يتمّ معنى اختصاص الجنس المستفاد من لام الاختصاص الداخلة على اسم الجلالة ـ كما سيأتي في البحث اللاحق ـ .
    إذن فتحصّل إلى هنا أنّ اللام هنا ـ سواء كانت للجنس أو الاستغراق ـ فإنّها تفيد أنّه ما من حمد يحمده حامد لأمر محمود إلاّ كان لله سبحانه حقيقة، لأنّ أي شيء يصحّ الحمد عليه فهو مصدره وإليه مرجعه، بل يعتقد أهل المعرفة أنّ كلّ حمد يصدر من حامد لمحمود فهو في الحقيقة «حمد الحقّ أيضاً نفسه، لكن في مقامه التفصيلي المسمّى بـ (المظاهر) من حيث عدم مغايرتها له» (1) فيكون الحامد مرتبة منه ـ وهي مرتبة الفعل ـ والمحمود مرتبة أخرى .
    هذا مضافاً إلى أنّه يمكن الاستدلال لإثبات هذه الحقيقة القرآنيّة، بوجهين آخرين؛ نقليّ وعقليّ:
    الوجه الأوّل: توضيحه يكون من خلال المقدّمات التالية:
    الأولى: إنّ كلّ ما يصدق عليه شيء فهو مخلوق له سبحانه؛ لقوله تعالى: (ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (غافر: 62).
    الثانية: إنّ كلّ شيء مخلوق فهو حسن وجميل، فلا خلق إلاّ وهو جميل ولا حسن إلاّ وهو مخلوق له منسوبٌ إليه؛ لقوله عزّ وجلّ: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (السجدة: 8).
    الثالثة: إنّه لم يخلق ما خلق بقهر قاهر ولا يفعل ما فعل بإجبار مجبر، بل خلقه عن علم واختيار؛ لقوله: (هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (الزمر: 4)، فكلّ شيء مقهور له ومحتاج إليه، ومن المحال أن يكون المقهور قاهراً لغيره.
    ــــــــــ
    (1) شرح فصوص الحكم: ج1 ص174.

    صفحة 258
    والمتحصّل من هذه المقدّمات الثلاث أنّ كلّ شيء في هذا العالم فهو فعلٌ اختياريّ له تعالى، فلا يكون إلاّ جميلاً، من هنا فما من حمد يحمده حامد لأمر محمود إلاّ كان له سبحانه حقيقة، لأنّ الجميل الذي يتعلّق به الحمد، منه سبحانه، فلله سبحانه جنس الحمد، وله سبحانه كلّ حمد.
    قال الإمام الصادق عليه السلام: «فُقد لأبي بغلة فقال: لئن ردّها الله عليَّ لأحمدنّه بمحامد يرضاها، فما لبث أن أُتي بها بسرجها ولجامها، فلمّا استوى عليها وضمّ إليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء وقال: «الحمد لله» ولم يزد، ثمّ قال: ما تركت ولا أبقيت شيئاً جعلت جميع أنواع المحامد لله عزّ وجلّ، فما من حمد إلاّ وهو داخل في ما قلت» (1).
    الوجه الثاني: أنّ الفعل الحسن الصادر من الله تعالى لا يرجع نفعه إليه، لأنّه الكامل المطلق الذي يستحيل عليه الاستكمال، وفعله إنّما هو إحسان محض يرجع نفعه إلى المخلوقين. أمّا الفعل الحسن الصادر من غيره فهو وإن كان إحساناً إلى أحد في بعض الأحيان، إلاّ أنّه إحسان إلى نفسه أوّلاً وبالذات وبه يدرك كماله (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ) (الإسراء: 7)، فالإحسان المحض إنّما هو فعل الله تعالى لا غير، فهو المستحقّ للحمد دون غيره.
    لذا فإنّ كلّ من أنعم على الغير فإنّه يطلب بذلك الإنعام عوضاً إمّا ثواباً أو ثناءً أو توصيل حقّ أو تخليصاً للنفس من خُلُق البخل، وطالب العوض لا يكون منعماً فلا يكون مستحقّاً للحمد في الحقيقة. أمّا الله سبحانه وتعالى فإنّه كامل لذاته والكامل لذاته لا يطلب الكمال لأنّ تحصيل الحاصل محال، فكانت عطاياه جوداً محضاً وإحساناً محضاً، فلا جرم كان مستحقّاً للحمد، فثبت أنّه لا يستحقّ الحمد إلاّ الله تعالى.
    ــــــــــ
    (1) كشف الغمّة: ج2 ص118، نقلاً عن البرهان في تفسير القرآن، مصدر سابق: ج1 ص115.

فهرس الكتاب