أهمّ النتائج المترتّبة على وجود التأويل للقرآن
لكي تتّضح هذه الحقيقة لابدّ من الإشارة إلى عدّة مقدّمات:الأُولى: إنّ الله سبحانه ذكر أنّ لكتابه تأويلاً هو الذي تدور مداره المعارف القرآنيّة وتنشأ منه، سواء على مستوى المعارف الإلهيّة والحقائق العقديّة أو على مستوى القوانين والأحكام الاجتماعيّة أو على مستوى التكاليف العباديّة، وأنّ هذا التأويل الذي تستبطنه جميع هذه البيانات أمر تقصر عن نيله الأفهام وتسقط دون الارتقاء إليه العقول، إلاّ نفوس الذين طهّرهم الله وأزال عنهم الرجس، فإنّ لهم قابليّة مسّه وفهمه والوقوف على حقائقه.
الثانية: لمّا كانت عامّة الناس لا يتجاوز فهمهم المحسوس ولا ترقى عقولهم إلى ما فوق عالم المادّة والطبيعة، وكان من ارتقى فهمه منهم بالارتياضات العلميّة إلى الورود في إدراك المعاني وكلّيات القواعد والقوانين، يختلف أمره باختلاف الوسائل التي يسّرت له الورود في عالم المعاني والكلّيات، كان ذلك موجباً لاختلاف الناس في فهم المعاني الخارجة عن الحسّ والمحسوس اختلافاً شديداً ذا عرْض عريض على مراتب مختلفة، وهذا أمر لا يمكن أن ينكره أحد.
ولا يمكن إلقاء معنىً من المعاني إلى إنسان إلاّ عن طريق معلوماته الذهنيّة التي تهيّأت عنده في خلال حياته وعيشه، فإن كان مستأنساً بالحسّ
صفحة 107
فعن طريق المحسوسات على قدر ما رقى إليه من مدارج الحسّ، كما يمثّل لذّة النكاح للصبي بحلاوة الحلواء. وإن كان نائلاً للمعاني الكلّية المجرّدة عن عوارض الجسم والجسمانيّات ففي ما نال وعلى قدر ما نال، وهذا ينال المعاني من البيان الحسّي والعقلي معاً بخلاف المستأنس بالحسّ.الثالثة: إنّ الهداية الدينيّة لا تختصّ بطائفة دون طائفة من الناس، بل تعمّ جميع الطوائف وتشمل عامّة الطبقات؛ قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة: 185).
إذا عرفت ذلك ـ أعني اختلاف الأفهام وعموم أمر الهداية مع ما تقدّم من وجود التأويل للقرآن ـ نقول: إنّ هذا هو الموجب أن تساق البيانات القرآنيّة مساق الأمثال، وهو أن يتّخذ ما يعرفه الإنسان ويعهده ذهنه من المعاني، فيبيّن به ما لا يعرفه لمناسبة ما بينهما، نظير توزين المتاع بالمثاقيل ولا مسانخة بينهما في شكل أو صورة أو حجم أو نوع إلاّ ما بينهما من المناسبة وزناً.