دور اتّباع المتشابه وابتغاء التأويل في الانحرافات الفكريّة والعقديّة
لو تتبّعنا أصحاب النظريّات والآراء التي انحرفت عن الصراط المستقيم بعد زمن النبيّ صلى الله عليه وآله، لوجدنا أنّ أكثر مواردها إنّما نشأ من اتّباع المتشابه وابتغاء التأويل، بل نجد أنّ ذلك صار مسلكاً عامّاً في كثير من الأحيان.ففرقة تتمسّك من القرآن بآيات للتجسيم، وأخرى للجبر، وأخرى للتفويض، وأخرى لعثرة الأنبياء، وأخرى للتنزيه المحض بنفي الصفات، وأخرى للتشبيه الخالص وزيادة الصفات، إلى غير ذلك، كلّ ذلك اتّباعاً للمتشابه من غير إرجاعه إلى المحكم الحاكم فيه.
وطائفة ذكرت أنّ الأحكام الدينيّة إنّما شرّعت لتكون طريقاً إلى الوصول، فلو كان هناك طريق أقرب منها، كان سلوكه متعيّناً لمن ركبه، فإنّما المطلوب هو الوصول إلى الغاية بأيّ طريق اتّفق وتيسّر، وأخرى قالت إنّ التكليف إنّما هو لبلوغ الكمال، ولا معنى لبقائه بعد الكمال بتحقّق الوصول فلا تكليف لكامل.
وقد كانت الأحكام والفرائض والحدود وسائر السياسات الإسلاميّة قائمة ومُقامة في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله لا يشذّ منها شاذّ، ثمّ لم تزل بعد
ــــــــــ
(1) ينظر أصول التفسير والتأويل، السيّد كمال الحيدري: ص293 ـ 356.
صفحة 105
ارتحاله صلى الله عليه وآله تنقص وتسقط حكماً فحكماً، يوماً فيوماً بيد الحكومات الإسلاميّة، ولم يبطل حكم أو حدّ إلاّ واعتذر المبطلون: أنّ الدِّين إنّما شرّع لصلاح الدُّنيا وإصلاح الناس، وما أحدثوه وابتدعوه أصلح لحال الناس اليوم، فجاءت نظريّات: المصالح المرسلة، والاستحسان، والقياس، ونحوها.حتّى آلَ الأمر إلى أن قيل: إنّ الغرض الوحيد من التشريعات الدينيّة هو إصلاح المجتمع الإنساني، ومع اختلاف الشرائط الاجتماعيّة والاقتصاديّة والعلاقات التي تحكمها فإنّ تلك التشريعات غير قابلة للتطبيق، بل تستدعي وضع قوانين ترتضيها المدنيّة الحديثة.
إذا تأمّلت في هذه وأمثالها ـ وهي لا تحصى كثرة ـ وتدبّرت في قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) لم تشكّ في صحّة ما ذكرناه، وقضيت بأنّ هذه الفتن والمحن التي ما فتئت تحاول ضرب الإسلام والمجتمع الإسلامي في أركانه، لم يستقرّ قرارها إلاّ من طريق اتّباع المتشابه وابتغاء تأويل القرآن.
ولعلّ هذا هو السبب في تشديد القرآن الكريم في هذا الباب وإصراره البالغ على النهي عن اتّباع المتشابه وابتغاء الفتنة والتأويل في آيات الله والقول فيها بغير علم واتّباع خطوات الشيطان، فإنّ من دأب القرآن أنّه يبالغ في التشديد في موارد سينثلم من جهتها ركن من أركان الدِّين فتنهدم به بنيته، كالتشديد الواقع في تولّي الكفّار، ومودّة ذوي القربى، وقرار أزواج النبيّ، ومعاملة الربا، واتّحاد الكلمة في الدِّين وغير ذلك.
ولا يغسل رين الزيغ من القلوب ولا يسدّ طريق ابتغاء الفتنة اللذين منشأهما الركون إلى الدُّنيا والإخلاد إلى الأرض واتّباع الهوى إلاّ ذكر يوم الحساب، كما قال تعالى: (وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (ص: 26).