Rss Feed

  1. النوع الثاني: الهداية التشريعيّة
    وهي التي تتعلّق بالأمور التشريعيّة من الاعتقادات الحقّة والأعمال الصالحة التي وضعها الله سبحانه للأمر والنهي والبعث والزجر، ووعد على الأخذ بها ثواباً وأوعد على تركها عقاباً. وهي هداية قوليّة من طريق الدعوة ببعث الأنبياء وإرسال الرُّسل وإنزال الكتب وتشريع الشرائع الإلهيّة، ولم يزل التدبير الربوبي يدعم الحياة الإنسانيّة بالدعوة الدينيّة القائم بها أنبياؤه ورسله، ويؤيّد بذلك دعوة الفطرة كما قال: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً) (النساء: 163 ـ 165).
    من أهمّ الفوارق بين النوعين الأخيرين من الهداية الإلهيّة، أنّ الهداية الفطريّة عامّة لا يستثنى منها إنسان لأنّها لازم الخلقة الإنسانيّة وهي في الأفراد بالسويّة، غير أنّها ربما تضعف أو يلغو أثرها لعوامل وأسباب تشغل الإنسان وتصرفه عن التوجّه إلى ما يدعو إليه عقله ويهديه إليه فطرته، أو ملكات وأحوال رديئة سيّئة تمنعه من إجابة نداء الفطرة كالعناد واللجاج وما يشبه ذلك؛ قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ

    صفحة 355
    وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (الجاثية: 23)، والهداية المنفيّة في الآية بمعنى الإيصال إلى المطلوب دون إراءة الطريق بدليل قوله: (وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ).
    وأمّا الهداية التشريعيّة وهي التي تتضمّنها الدعوة الدينيّة، فإنّ من شأنها أن تبلغ المجتمع فتكون في معرض من عقول الجماعة، فيرجع إليها من آثر الحقّ على الباطل. وأمّا بلوغها لكلّ واحد منهم، فإنّ العلل والأسباب التي يتوسّل بها إلى بيان أمثال هذه المقاصد ربما لا تساعد على ذلك على ما في الظروف البيئيّة والأزمنة من الاختلاف، وكيف يمكن لإنسان أن يدعو كلّ إنسان إلى ما يريد بنفسه أو بوسائط من نوعه؟ فإنّه متعذّر جدّاً.
    وإلى المعنى الأوّل أشار تعالى بقوله: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ) (فاطر: 24)، وإلى الثاني بقوله: (لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ) (يس: 6) فمن بلغته الدعوة وانكشف له الحقّ فقد تمّت عليه الحجّة، ومن لم تبلغه الدعوة بلوغاً ينكشف به له الحقّ فقد أدركه الفضل الإلهي بعدّه مستضعفاً، أمره إلى الله إن يشأ يغفر له وإن يشأ يعذّبه؛ قال تعالى: (إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً) (النساء: 98 ـ 99).

فهرس الكتاب