Rss Feed

  1. النوع الثالث: الهداية التكوينيّة الخاصّة
    هناك نوع ثالث من الهداية الإلهيّة، تختصّ بطبقة خاصّة من الذين آمنوا، تأتي كجزاء إلهيّ لمن تلبّس بلوازم الهداية الفطريّة ثمّ ثبّتها من خلال العمل بمقتضى ما جاءت به الدعوة الدينيّة التي قام بها أنبياؤه ورسله.
    وهي هداية تكوينيّة ـ بمعنى الإيصال إلى المطلوب ـ ومن أهمّ آثارها أنّها ثورت نوع انبساط خاصّ في القلب، يعي به المؤمن القول الحقّ والعمل

    صفحة 356
    الصالح من غير أن يتضيّق به، وتهيّؤ مخصوص لا يأبى به التسليم لأمر الله ولا يخرج عن حكمه، وهو المشار إليه في قوله: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) إلى أن يقول: (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ) (الزمر: 23)، ووصف هذه الهداية بالنور؛ لأنّه بها ينجلي للقلب ما يجب عليه أن يعيه من التسليم لحقّ القول وصدق العمل.
    وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الهداية في آيات كثيرة كقوله تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) (إبراهيم: 27)، حيث بيّن أنّ المؤمن إذا ثبت على الإيمان واستقام عليه بمقتضى الهداية الفطريّة والتشريعيّة، ثبّته الله تعالى عليه في الدنيا والآخرة، بمعنى أنّ ثبات المؤمن واستقامته ـ بحسن اختياره ـ على ما آمن به (وهو فعله) فيجازيه الله تثبيته ـ بسبب ذاك القول الثابت ـ وحفظه من الزيغ والزلل في الدنيا والآخرة، وهذا مفاد الهداية التكوينيّة المترتّبة على الهداية الفطريّة والعمل بمقتضاها.
    وكذلك ما ورد في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) (الحديد: 28)، وهذا النور هو الذي أشير إليه في قوله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) (الأنعام: 122).
    وهكذا ما ورد في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً) (الأنفال: 29)، ونظيرها بحسب المعنى قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (الطلاق: 2 ـ 3).
    وهذه الهداية التكوينيّة الخاصّة هي التي يقابلها ما ورد في قوله تعالى: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الصفّ: 7) وقوله: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (الصفّ: 5) وقوله: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (المائدة: 67)،

    صفحة 357
    فليس المراد من ذلك عدم الهداية إلى الإيمان والدعوة إليه؛ لمنافاته لأصل التبليغ والدعوة العامّة للناس، وإنّما المراد منعه تعالى الأسباب الجارية أن تنقاد لهم في سلوكهم إلى ما يرومونه من الشرّ والفساد، وعدم إعطاء المجال لهم لينالوا ما يهمّون من إبطال الحقّ وإطفاء نوره (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) (التوبة: 32).
    ولعلّ هذه الهداية التي عبّر عنها القرآن بأنّها هداية بالأمر الإلهي كما في قوله تعالى: (يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) (الأنبياء: 73) حيث يقال: إنّ المراد من الأمر هو الذي بيّن حقيقته في قوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (يس: 82 ـ 83) فبيّن أنّ «أمره» هو قوله للشيء «كُنْ» وهو كلمة الإيجاد، والإيجاد هو وجود الشيء لكن لا من كلّ جهة، بل من جهة استناده إليه تعالى وقيامه به.
    وبه يعلم أنّ في الأشياء المكوّنة تدريجاً الحاصلة بتوسّط الأسباب الكونيّة المنطبقة على الزمان والمكان، جهة معرّاة عن التدريج خارجة عن حيطة الزمان والمكان، هي من تلك الجهة أمره وقوله وكلمته. وأمّا من الجهة التي هي بها تدريجيّة مرتبطة بالأسباب الكونيّة، منطبقة على الزمان والمكان، فهي بها من الخلق؛ قال تعالى: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) (الأعراف: 54).
    فالأمر هو وجود الشيء من جهة استناده إليه تعالى وحده، والخلق هو ذلك من جهة استناده إليه مع توسّط الأسباب الكونيّة فيه. فظهر بذلك أنّ الأمر هو كلمة الإيجاد السماويّة وفعله تعالى المختصّ به الذي لا تتوسّط فيه الأسباب ولا يتقدّر بزمان أو مكان وغير ذلك. ومن الواضح أنّ مثل هذا الأمر لا يكون قابلاً للتخلّف.
    ممّا تقدّم يتّضح أنّه لا يمكن أن يكون المراد من الهداية هنا (يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) بمعنى إراءة الطريق، لأنّها قابلة للتخلّف وعدم الوصول.

    صفحة 358
    وقد أشار القرآن إلى أنّ هذا النوع من الهداية هو الذي يختصّ بمقام الإمامة ـ بحسب الاصطلاح القرآني ـ حيث نجد في كلامه تعالى أنّه كلّما تعرّض للإمامة تعرّض للهداية بالأمر تعرُّض التفسير ووصفها بالهداية وصف تعريف. قال تعالى: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 72 ـ 73)، وقال: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة: 24).
    ولازم ذلك أنّ الإمام الذي يقوم بهذا الدور التكوينيّ ـ الذي هو الإيصال إلى المطلوب ـ إنّما هو في الواقع يتصرّف في بعض النفوس التي تستحقّ ذلك بتسييرها في سيرها التكاملي في درجات صعودها إلى الله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (فاطر: 10)، بنقلها من موقف معنويّ ودرجة إيمانية إلى موقف معنويّ ودرجة إيمانية أخرى.
    عن عبد العزيز القراطيسي قال: قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: «يا عبد العزيز إنّ الإيمان عشر درجات بمنزلة السُلّم يصعد منه مرقاة بعد مرقاة» (1)، أي أنّ المؤمن إذا أراد باعتقاده الحقّ وعمله الصالح أن يرتقي من درجة إيمانية إلى أخرى صعوداً إلى مراتب القرب الإلهيّ ـ التي لا حدّ لها ـ فإنّ الإمام هو الواسطة الوجوديّة في نزول الفيوضات المعنويّة والمقامات الباطنيّة التي يهتدي إليها المؤمنون بأعمالهم الصالحة ويتلبّسون بها رحمة من ربّهم.
    وبهذا تتميّز هذه الهداية عن الهداية التشريعيّة التي هي من شؤون النبوّة والرسالة، بل كلّ مؤمن يهدي إلى الله سبحانه بالنصح والموعظة الحسنة.
    ــــــــــ
    (1) الأصول من الكافي: كتاب الإيمان والكفر، باب آخر منه، الحديث 2، ج2، ص45.

    صفحة 359
    والحاصل: فكما أنّ النبي رابط وواسطة بين الناس وبين ربّهم في أخذ الفيوضات الظاهريّة ـ وهي الشرائع الإلهيّة التي تنزل بالوحي على النبيّ، وتنشر منه وبتوسّطه إلى الناس وفيهم، فيكون دليلاً يهدي الناس إلى الاعتقادات الحقّة والأعمال الصالحة ـ كذا الإمام فإنّه الرابط بين الناس وبين ربّهم في إعطاء الفيوضات الباطنيّة الملكوتيّة وأخذها، فهو دليل هادٍ للنفوس إلى مقاماتها ودرجاتها المعنويّة.

فهرس الكتاب