البحث الثاني: معنى كون المحكمات هن أُمّ الكتاب
الأُمّ بحسب أصل معناه ما يرجع إليه الشيء، وليس إلاّ أنّ الآيات المتشابهة ترجع إليها، فالبعض من الكتاب (وهي المتشابهات) ترجع إلى بعض آخر (وهي المحكمات)، ومن هنا يظهر أنّ الإضافة في قوله: «أُمّ الكتاب» ليست لاميّة كقولنا: أُمّ الأطفال، بل هي بمعنى «من» كقولنا نساء القوم وقدماء الفقهاء ونحو ذلك. فالكتاب يشتمل على آيات هي أُمّ آيات أُخر.وفي إفراد كلمة «الأُمّ» من غير جمع، دلالة على كون المحكمات غير مختلفة في أنفسها بل هي متّفقة مؤتلفة.
فهذا ما يتحصّل من معنى المحكم والمتشابه ويتلقّاه الفهم من مجموع قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) فإنّ الآية محكمه بلا شكّ ولو فرض جميع القرآن غيرها متشابهاً. ولو كانت هذه الآية متشابهة عادت جميع آيات القرآن متشابهة وفسد التقسيم الذي يدلّ عليه قوله: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ) وبطل العلاج الذي يدلّ عليه قوله: (هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) ولم يصدق قوله: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً) (فصّلت: 3 و 4) ولم يتمّ الاحتجاج الذي يشتمل عليه قوله: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء: 82) إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ القرآن نورٌ وهدىً وتبيان وبيان ومبين وذكْر ونحو ذلك.
ولعلّ في بعض الروايات إشارة إلى ما أوردناه في معنى المحكم والمتشابه.
- ففي تفسير العيّاشي: «سئل الإمام الصادق عليه السلام عن المحكم والمتشابه فقال: المحكم ما يعمل به، والمتشابه ما يشبه بعضه بعضاً» (1).
ــــــــــ
(1) تفسير العياشي، مصدر سابق: أبواب مقدّمة التفسير، تفسير الناسخ والمنسوخ والظاهر والباطن والمحكم والمتشابه، ج1 ص85 .
صفحة 91
- وفيه أيضاً عن مسعدة بن صدقة قال: «سألت أبا عبد الله الصادقعليه السلام عن المحكم والمتشابه، قال: والمتشابه ما اشتبه على جاهله» (1).
- وفي العيون عن الإمام الرضا عليه السلام: «من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه هُدي إلى صراط مستقيم» ثمّ قال: «إنّ في أخبارنا متشابهاً كمتشابه القرآن، فردّوا متشابهها إلى محكمها، ولا تتّبعوا متشابهها فتضلّوا» (2).
والأخبار ـ كما ترى ـ متقاربة في تفسير المتشابه وهي تؤيّد ما ذكرناه في البيان السابق، من أنّ التشابه يقبل الارتفاع، وأنّه إنّما يرتفع بتفسير المحكم له.
وأمّا ما ذكر في قوله عليه السلام من أنّ في أخبارهم متشابهاً كمتشابه القرآن ومحكماً كمحكم القرآن، فقد وردت في هذا المعنى عنهم عليهم السلام روايات مستفيضة وهو مقتضى القاعدة، فإنّ الأخبار لا تشتمل إلاّ على ما احتوى عليه القرآن الشريف ولا تبيّن إلاّ ما تعرّض له.
من الاعتراضات التي أوردت على القرآن الكريم اشتماله على المتشابهات حيث قيل: لماذا اشتمل القرآن على الآيات المتشابهة بحيث أدّى إلى أن يتمسّك به كلّ صاحب مذهب على مذهبه، ثمّ يسمّي الآيات الموافقة لمذهبه محكمة والآيات المخالفة متشابهة؟ أفلم يكن الأجدر بمَن يريد أن ينزل كتاباً لهداية البشر جميعاً، أن يجعله جليّاً نقيّاً عن المتشابهات، حتّى لا يقع الناس في الاشتباه والخطأ، ويغلق الطريق أمام مَن في قلبه مرض أن يوجد الفتنة والاختلاف في الأمّة؟
ــــــــــ
(1) المصدر السابق: ج1 ص87 .
(2) عيون أخبار الرضا، الصدوق، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات: الحديث 39 ، ج2 ص261.
صفحة 92
والجواب عن ذلك: إنّ المعارف التي يلقيها القرآن على قسمين:منها: معارف عالية خارجة عن حكم الحسّ والمادّة، والأفهام العاديّة لا تلبث دون أن تتردّد فيها بين المصداق الجسماني الحسّي وبين غيره، كقوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) (الفجر: 14) وقوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ) (الفجر: 22) فيتبادر منها إلى الذهن المستأنس بالمحسوس من الأحكام، معانٍ هي من أوصاف الأجسام وخواصّها، وتزول بالرجوع إلى الأصول التي تشتمل على نفي حكم المادّة والجسم عن المورد.
وهذا ممّا يطّرد في جميع المعارف والأبحاث غير المادّية والغائبة عن الحواسّ، ولا يختصّ بالقرآن الكريم، بل يوجد في غيره من الكتب السماويّة بما تشتمل عليه من المعارف العالية من غير تحريف، ويوجد أيضاً في المباحث الإلهيّة. وهو الذي يشير إليه القرآن بلسان آخر في قوله تعالى: (أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ) (الرعد: 17)، حيث بيّنت أنّ حكم المثل جارٍ في أفعاله تعالى كما هو جارٍ في أقواله، ففعله تعالى كقول الحقّ إنّما قصد منهما الحقّ الذي يحويانه ويصاحب كلاًّ منهما أمور غير مقصودة ولا نافعة يعلوهما ويربوهما، لكنّها ستزول وتبطل ويبقى الحقّ الذي ينفع الناس، وإنّما يزول ويزهق بحقّ آخر مثله، وهذا كالآية المتشابهة تتضمّن من المعنى حقّاً مقصوداً، يصاحبه ويعلو عليه بالاستباق إلى الذهن معنىً آخر باطل غير مقصود، لكنّه سيزول بحقّ آخر يظهر الحقّ الأوّل على الباطل الذي كان يعلوه، ليحقّ الحقّ بكلماته ويبطل الباطل ولو كره المجرمون.
ومنها: ما يتعلّق بالنواميس الاجتماعيّة والأحكام الفرعيّة، واشتمال
صفحة 93
هذا القسم من المعارف الدينيّة على الناسخ والمنسوخ بالنظر إلى تغيّر المصالح المقتضية للتشريعات ونحوها من جهة ونزول القرآن مفرّقاً من جهة أخرى يوجب ظهور التشابه في آياته.وسيأتي مزيد توضيح لذلك في بحث التأويل.
خلاصة ما تقدّم في هذه القاعدة:
- إنّ الآيات القرآنيّة تنقسم إلى محكم ومتشابه.
- إنّ اشتمال القرآن على المتشابهات أمرٌ ضروريّ، كما سيتّضح لاحقاً.
- إنّ المحكمات هنّ أُمّ الكتاب التي ترجع إليها المتشابهات رجوع بيان.
- إنّ الإحكام والتشابه وصفان يقبلان الإضافة والاختلاف بالجهات، بمعنى أنّ آيةً ما يمكن أن تكون محكمة من جهة ومتشابهة من جهة أُخرى، فتكون محكمة بالإضافة إلى آية ومشابهة إلى آية أخرى، ولا مصداق للمتشابه على الإطلاق في القرآن، ولا مانع من وجود محكم على الإطلاق .
- وبهذا يتأيّد أنّ المنهج الصحيح لفهم القرآن إنّما يكون من خلال تفسير بعض ببعض.