الأولى: دواعي العبادة
العبادة فعل اختياريّ فلابدّ لها من باعث نفسانيّ يبعث نحوها. وقد أشارت الآيات والروايات أنّها أحد أمور ثلاثة:- أن يكون الداعي لعبادته تعالى هو طمع الإنسان في إنعامه، وبما يجزيه عليه من الأجر والثواب؛ قال تعالى: (وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (النساء: 13).
- أن يكون الداعي للعبادة هو الخوف من العقاب على المخالفة؛ قال تعالى: (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (يونس: 15).
وقد أشير إلى كلا الأمرين في قوله تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) (السجدة: 16)، وقوله: (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف: 56)، وقوله: (يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) (الإسراء: 57).
- أن يعبد الله بما أنّه أهلٌ للعبادة، فإنّه الكامل بالذات والجامع لصفات الجمال والجلال. وهذا القسم من العبادة لا يتحقّق إلاّ ممّن اندكّت وفنت نفسيّته، فلم يرَ لذاته إنيّة واستقلالاً إزاء خالقه، ليقصد بها خيراً أو يحذر لها من عقوبة، وإنّما ينظر إلى صانعه وموجده ولا يتوجّه إلاّ إليه.
ولعلّ في قوله تعالى: (وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) (الحديد: 20) إشارة إلى هذه الدواعي، حيث بيّنت أنّ على الإنسان أن يتنبّه لحقيقة الدُّنيا وهي أنّها متاع الغرور (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) (النور: 39)، فعليه أن
صفحة 330
لا يجعلها غاية لأعماله في الحياة، وأن يعلم أنّ له وراءها داراً وهي الدار الآخرة، فيها ينال غاية أعماله، وهي عذابٌ شديد للسيّئات يجب أن يخافه ويخاف الله فيه، ومغفرةٌ من الله قِبال أعماله الصالحة يجب أن يرجوها ويرجو الله فيها، ورضوانٌ من الله يجب أن يقدّمه على رضى نفسه.بل يمكن استفادة هذه الدواعي للعبادة من الآيات السابقة على هذه الآية مورد البحث؛ ببيان أنّ الثناء على الفعل الجميل قد يكون ناشئاً عن إدراك الحامد حُسن ذات الفاعل وصفاته من دون نظر إلى إنعامه أو الرغبة فيه أو الرهبة منه، وقد يكون ناشئاً عن النظر إلى أحد هذه الأمور الثلاثة، فقد:
- أشير إلى المنشأ الأوّل بقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) فالحامد يحمده تعالى بما أنّه مستحقّ للحمد في ذاته، وبما أنّه مستجمع لجميع صفات الكمال، منزّه عن جميع جهات النقص.
- وأشير إلى المنشأ الثاني بقوله: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) فإنّه المُنعم على عباده بالخلق والإيجاد ثمّ بالتربية والتكميل.
- وأشير إلى المنشأ الثالث بقوله: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فإنّ صفة الرحمة تستدعي الرغبة في نعمائه تعالى وطلب الخير منه.
- وأشير إلى المنشأ الرابع بقوله: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) فإنّ من تنتهي إليه الأمور ويكون إليه المنقلب، جديرٌ بأن تُرهب سطوته وتحذر مخالفته.
كذلك على مستوى البحث الروائي، هناك مجموعة من الروايات التي تثبت هذه الحقيقة:
- عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «العبّاد ثلاثة: قومٌ عبدوا الله عزّ وجلّ خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقومٌ عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الأُجراء، وقومٌ عبدوا الله حبّاً فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل
صفحة 331
العبادة» (1).- وعن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً قال: «إنّ الناس يعبدون الله عزّ وجلّ على ثلاثة أوجه: فطبقة يعبدونهُ رغبةً في ثوابه فتلك عبادة الحرصاء وهو الطمع، وآخرون يعبدونه فَرَقاً من النار فتلك عبادة العبيد وهي رهبة، ولكنّي أعبده حبّاً له عزّ وجلّ فتلك عبادة الكرام وهو الأمن؛ لقوله عزّ وجلّ: (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) (النمل: 89). (2)
- وعن الإمام السجّاد عليه السلام قال: «إنّي أكره أن أعبد الله ولا غرض لي إلاّ ثوابه، فأكون كالعبد الطمع المطمع، إنْ طمع عمل وإلاّ لم يعمل، وأكره أن لا أعبده إلاّ لخوف عقابه، فأكون كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل. قيل: فلِمَ تعبده؟ قال: لما هو أهله بأياديه عليَّ وإنعامه» (3).