الثانية: اختلاف الناس في اختيار هذه الطرق
تختلف طِباع الناس في إيثار هذه الطرق الثلاثة واختيارها:فبعضهم ـ وهو الغالب ـ يغلب على نفسه الخوف، وكلّما فكّر في ما أوعد الله الظالمين والذين ارتكبوا المعاصي والذنوب من أنواع العذاب الذي أُعدّ لهم، زاد في نفسه خوفاً ولفرائصه ارتعاداً، ويساق بذلك إلى عبادته تعالى خوفاً من عذابه.
وبعضهم يغلب على نفسه الرجاء، وكلّما فكّر في ما وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من النعمة والكرامة وحسن العاقبة زاد رجاءً وبالغ في التقوى والتزام الأعمال الصالحات، طمعاً في المغفرة والجنّة.
ــــــــــ
(1) الأصول من الكافي، مصدر سابق: كتاب الإيمان والكفر، باب العبادة، ج2 ص84 .
(2) الخصال للصدوق، مصدر سابق: ص188.
(3) بحار الأنوار، مصدر سابق: باب النية وشرائطها، الحديث 33، ج67، ص210.
صفحة 332
وطائفة ثالثة وهم العلماء بالله لا يعبدون الله خوفاً من عقابه ولا طمعاً في ثوابه، وإنّما يعبدونه لأنّه أهلٌ للعبادة، وذلك لأنّهم عرفوه بما يليق به من الأسماء الحسنى والصفات العليا، فعلموا أنّه ربّهم الذي يملكهم وإرادتهم ورضاهم وكلّ شيء غيرهم، ويدبّر الأمر وحده وليسوا إلاّ عباد الله فحسب، وليس للعبد إلاّ أن يعبد ربّه، ويقدّم مرضاته وإرادته على مرضاته وإرادته، فهم يعبدون الله ولا يريدون في شيء من أعمالهم فعلاً أو تركاً إلاّ وجهه، ولا يلتفتون فيها إلى عقاب يخوّفهم ولا إلى ثواب يرجّيهم، وإن خافوا عذابه ورجوا رحمته.وهؤلاء هم المقرّبون الفائزون بقربه تعالى، إذ لا يحول بينهم وبين ربّهم شيءٌ ممّا يقع عليه الحسن أو يتعلّق به الوهم أو تهواه النفس أو يلبسه الشيطان، فإنّ كلّ ما يتراءى لهم ليس إلاّ آية كاشفة عن الحقّ المتعال لا حجاباً ساتراً، فيفيض عليهم ربّهم علم اليقين، ويكشف لهم عمّا عنده من الحقائق المستورة عن هذه الأعين المادّية العمية بعدما يرفع الستر فيما بينه وبينهم، كما يشير إليه قوله تعالى: (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) (المطفّفين: 18 ـ 21).
وبالجملة: هؤلاء في الحقيقة هم المتوكّلون على الله، المفوّضون إليه، الراضون بقضائه، المسلّمون لأمره، إذ لا يرون إلاّ خيراً ولا يشاهدون إلاّ جميلاً، فيستقرّ في نفوسهم من الملكات الشريفة والأخلاق الكريمة ما يلائم هذا التوحيد، فهم مخلصون لله في أخلاقهم كما كانوا مخلصين له في أعمالهم، وهذا معنى إخلاص العبد دينه لله؛ قال تعالى: (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) (الزمر: 3)، وقال: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (البيّنة: 5)، وقال: (هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (المؤمن: 65).
ومن أوضح مصاديق هذه الطبقة الأنبياء عليهم السلام، وقد نصّ القرآن
صفحة 333
بأنّ الله اجتباهم أي جمعهم لنفسه وأخلصهم لحضرته؛ قال تعالى: (وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأنعام: 87)، وقال: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحجّ: 78).