Rss Feed

  1. البحث الثاني: من هم المنعم عليهم والمغضوب عليهم والضالّون؟
    قبل بيان ذلك، لا بأس بالإشارة إلى أصل قرآنيّ، وهو أنّ من أهمّ مميزات هذا الكتاب الإلهي أنّه يحاول بيان المفهوم من خلال الإشارة إلى مصاديقه ليكون أكثر وضوحاً وأسهل اقتداءً وتطبيقاً، كما في قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ) (البقرة: 177)، فإنه عرّف البرّ ببيان من هم الأبرار.
    ولعلّ هذه هي النكتة في هذه الآية حيث عرّفت الصراط المستقيم من خلال بيان المصاديق الخارجية لذلك، فذكرت صفاتهم الإيجابية من خلال قوله: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) والسلبية من خلال: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ).
    أمّا المنعم عليهم، فقد بيّن تعالى بعض مصاديقه في قوله: (وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ) (النساء: 69).
    وكذلك ما ورد في قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا) (مريم: 58).

    صفحة 402
    وأمّا على مستوى النصوص الروائية، فقد ذكر من مصاديق المنعم عليهم: فالمنعم عليهم هم هؤلاء الطوائف الأربع، وهم:
    1 ـ النَّبِيُّونَ: وهم أصحاب الوحي الذي عندهم نبأ الغيب، ولا خبرة لنا من حالهم بأزيد من ذلك إلّا من حيث الآثار.
    2 ـ الشُّهَدَاءُ: والمراد بهم شهداء الأعمال في ما يطلق من لفظ الشهيد في القرآن دون المستشهدين في معركة القتال. وحقيقتها ـ الشهادة ـ تحمّل حقائق أعمال الناس في الدنيا من سعادة أو شقاء، وردّ وقبول، وانقياد وتمرّد، وأداء ذلك في الآخرة يوم يستشهد الله من كلّ شيء حتى من أعضاء الإنسان. ومن المعلوم أنّ هذه الكرامة ليست تنالها جميع الأمّة، إذ ليست إلّا كرامة خاصّة للأولياء الطاهرين منهم.
    3 ـ الصِّدِّيقُونَ: والمراد بهم ـ كما يدلّ عليه اللفظ ـ المبالغة في الصدق، ومن الصدق ما هو في القول، ومنه ما هو في الفعل، وصدق الفعل هو مطابقته للقول لأنّه حاكٍ عن الاعتقاد، فإذا صدق في حكايته كان حاكياً لما في الضمير من غير تخلّف. وصدق القول مطابقته لما في الواقع، وحيث كان القول نفسه من الفعل بوجه، كان الصادق في فعله لا يخبر إلّا عمّا يعلم صدقه وأنّه حقّ، ففي قوله الصدق الخبري والمخبري جميعاً.
    فالصدّيق الذي لا يكذب أصلاً، هو الذي لا يفعل إلّا ما يراه حقّاً من غير اتّباع لهوى النفس، ولا يقول إلّا ما يرى أنّه حقّ، ولا يرى شيئاً إلّا ما هو حقّ؛ فهو يشاهد حقائق الأشياء، ويقول الحقّ ويفعل الحقّ.
    4 ـ الصَّالِحُونَ: وهم أهل اللياقة بنعم الله الخاصّة، بمعنى أنّه ليس المراد هو الصلاح لمطلق الرحمة العامّة الإلهيّة الواسعة لكلّ شيء، ولا الخاصّة بالمؤمنين على ما يفيدهما قوله تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) (الأعراف: 156) وليس المراد أيضاً مطلق كرامة

    صفحة 403
    الولاية الإلهيّة ـ وهو تولّي الحقّ سبحانه أمر عبده ـ فإنّ الصالحين وإن شرّفوا بذلك وكانوا من الأولياء المكرّمين، وإنّما المراد ولاية خاصّة لا يستحقّها إلّا من صلح ذاته فضلاً عن عمله، وبه يكون متهّيئاً للدخول في حصن الولاية الإلهيّة الخاصّة، فيكون العبد مصداقاً لقوله: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (يونس: 62). ولا يصل العبد إلى هذا المقام إلّا إذا كان على يقين من أنّه لا استقلال لشيء دون الله ولا تأثير لسبب إلّا بإذن الله، عندها لا يحزن من أيّ مكروه واقع ولا يخاف أيّ محذور محتمل.
    وأمّا على مستوى النصوص الروائية فقد ذكرت مصاديق أخرى للمنعَم عليهم:
    - في كتاب معاني الأخبار بإسناده إلى جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال: «قول الله عزّ وجلّ في الحمد: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) يعني محمداً وذرّيته صلوات الله عليهم» (1).
    - ما ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، في قوله الله عزّ وجلّ: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) قال: «شيعة عليّ عليه السلام الذين أنعمت عليهم بولاية عليّ بن أبي طالب، لم يغضب عليهم ولم يضلّوا» (2).
    وتعليقاً على هذه النصوص ونظائرها يمكن الإشارة إلى نكتتين:
    الأولى: إنّ ما ذكر فيها إنّما هو من باب الجري والتطبيق لا التفسير وبيان المعنى، حتى يلزم منه عدم الانطباق على غيرهم ممن هم على الصراط المستقيم.
    ــــــــــ
    (1) نقلاً عن تفسير نور الثقلين: الحديث101، ج1، ص23.
    (2) المصدر السابق: الحديث103، ج1، ص23.


    صفحة 404
    الثانية: إنّ المنعم عليهم بمقتضى ما ورد في قوله تعالى: (وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً) (النساء: 69) على درجتين:
    الأولى: وهم النبيّون والصدّيقون والشهداء والصالحون.
    الثانية: الذين يلحقون بهم دون الصيرورة منهم.
    فإنّ قوله: (فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) يدلّ على أنّ هناك جماعة هم المنعم عليهم ـ وهم أصحاب الصراط المستقيم الذي لم ينسب في كلامه تعالى إلى غيره إلّا هذه الجماعة ـ وأنّ الآخرين ملحقون بهم غير صائرين منهم، كما لا يخلو قوله: (وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً) من تلويح وإشارة إليه.
    وأمّا المغضوب عليهم والضالّون، فقد أشارت النصوص إلى مصاديق متعدّدة لهما:
    - في «من لا يحضره الفقيه» عن الإمام الرضا عليه السلام قال: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) استعاذة من أن يكون من المعاندين الكافرين المستخفّين به وبأمره ونهيه، (وَلا الضَّالِّينَ) اعتصام من أن يكون من الذين ضلّوا عن سبيله، من غير معرفة، وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً» (1).
    - وفي مجمع البيان، «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: إنّ الله تعالى مَنَّ عليَّ بفاتحة الكتاب. إلى قوله: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) اليهود (وَلا الضَّالِّينَ) النصارى» (2).
    ــــــــــ
    (1) من لا يحضره الفقيه، للشيخ الصدوق، تحقيق علي أكبر الغفاري, مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية 1404هـ , قم: ج1، ص310.
    (2) مجمع البيان، لأبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، الطبعة الأولى، 1415هـ، بيروت: ج1، ص72.


    صفحة 405
    في تفسير عليّ بن إبراهيم عن حريز عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «المغضوب عليهم: النصّاب، والضالّين: اليهود والنصارى»(1).
    - وفي الاحتجاج عن الإمام أبي الحسن العسكري عليه السلام: أنّ أبا الحسن الرضا عليه السلام قال: «إنّ من تجاوز بأمير المؤمنين عليه السلام العبوديّة، فهو من المغضوب عليهم ومن الضالّين» (2).
    وفي الآيات إشارة إلى بعض ما تقدّم؛ قال تعالى في حقّ اليهود: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (المائدة: 60)، وقال: (قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ) (البقرة: 61)، وقال في حقّ النصارى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (المائدة: 77).
    وكيفما كان فإنّ لفظ «الضلال» وإن كان يستخدم في كلّ حالات الخروج من الاعتدال وينطبق على كلّ ضروب الانحراف، فيكون شاملاً للمغضوب عليهم أيضاً، إلاّ أنّه في هذه الآية مورد البحث، أُريد منه خصوص حالات الخروج غير المتّصفة بالتمرّد والعناد بدليل قوله تعالى: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ). فهناك نحو من الترقّي في النفي، أي مجي العموم المنفيّ، وهو قوله: (وَلا الضَّالِّينَ) بعد الخصوص(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) فكأنّ الإنسان
    ــــــــــ
    (1) تفسير القمّي، لأبي الحسن علي بن إبراهيم القمّي، مصدر سابق: ج1، ص29.
    (2) الاحتجاج، للعلاّمة أبي منصور أحمد بن علي الطبرسي، تحقيق الشيخ محمد البهادري والشيخ محمّد هادي به، انتشارات أسوة، الطبعة الثانية، 1416هـ: ج2، ص233.


    صفحة 406
    يطلب من الله تعالى أن يكون من الذين أنعم الله عليهم أوّلاً، ثمّ يطلب منه أن لا يكون منحرفاً انحراف أولئك المتمرّدين على الله (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) بل ولا ـ حتّى ـ أن يكون منحرفاً بأيّ شكل من أشكال الانحراف (وَلا الضَّالِّينَ).

فهرس الكتاب