البحث الثالث: ما هي النعم التي أنعم الله بها عليهم؟
عرفت سابقاً معنى النعمة لغة: إلّا أنه يمكن أن يقال إنّ في هذه الكلمة شيئاً من معنى اللين والطيب والملاءمة، فكأنها مضمّن فيها معنى النعومة. وهي تنقسم إلى نعم ظاهرية وباطنية، كما قال تعالى: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) (لقمان: 20).والقرآن لا يعدّ العطايا الظاهرية ـ كالمال والجاه والأزواج والأولاد ونحوها ـ نعمة بنحو الإطلاق للإنسان، وإنّما هي كذلك إذا وقعت في طريق السعادة وانصبغت بصبغة الولاية الإلهيّة وصارت في طريق القرب إلى الله تعالى، وأمّا إذا وقعت في طريق الشقاء وتحت ولاية الشيطان فإنّما هي نقمة وليست بنعمة، والآيات في ذلك كثيرة.
نعم، إذا نسبت إلى الله سبحانه فهي نعمة منه وفضل ورحمة، لأنّه خير محض لا يفيض منه إلاّ الخير، ولا يريد في موهبته شرّاً ولا سوءًا، وهو رؤوف رحيم ودود؛ قال تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) (إبراهيم: 34) والخطاب في الآية لعامّة الناس، وقال: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) (المزمل: 11) وقال: (ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ) (الزمر: 49) فهذه وأمثالها نعمة إذا نسبت إليه تعالى، لكنها نقمة إذا نسبت إلى الكافر بها؛ لقوله: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم: 7).
صفحة 407
إذن فالعطايا الظاهرية هي نعمة من وجه ونقمة من آخر، بخلاف العطايا والنعم الباطنية (وهي المقامات المعنوية التي لا تُنال إلّا بإخلاص العمل) فإنّها نعمة مطلقاً.بناءً على ذلك يمكن أن يقال إنّ المراد من النعم التي أنعم الله بها عليهم إنّما هي الباطنية دون الظاهرية ـ وإن كانت هي نعماً أيضاً ـ ببيان: إنّ الآية أخبرت أنه تعالى أنعم عليهم وأطلق القول فيهم، ولازمه أنّ النعمة الإلهيّة التي شملتهم هي من غير أن يشوبها وينغصها نقمة، وهذا هو معنى النعمة الباطنية كما عرفت. ولذا نجد أنّ الآية بيّت أنّ هؤلاء المنعم عليهم غير مغضوب عليهم ولا ضالّون. ولو كانت نعمة ظاهرية لأمكن أن تكون مشوبة بنقمة، فيشملهم الغضب الإلهي.
والشاهد على صحة هذا الفهم من الآية ما جاء عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال: «ليس هؤلاء المنعم عليهم بالمال وصحّة البدن ـ وإن كان كلّ هذا نعمة من الله ظاهرة ـ ألا ترون أنّ هؤلاء قد يكونون كفّاراً أو فسّاقاً؟!
فما نُدبتم إلى أن تدعوا بأن ترشدوا إلى صراطهم، وإنّما أُمرتم بالدعاء بأن ترشدوا إلى صراط الذين أنعم الله عليهم بالإيمان وتصديق رسوله، وبالولاية لمحمد وآله الطيّبين وأصحابه الخيرين المنتجبين» (1).
ــــــــــ
(1) نور الثقلين: الحديث102، ج1، ص23.