أصناف الناس إزاء الهداية الإلهيّة
من الحقائق الأساسيّة التي توفّر عليها القرآن في مواضع متعدّدة، أنّه قرّر لنوع الإنسان بل لجميع من سواه سبيلاً يسلكون به إليه سبحانه؛ قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، وقال: (يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (الانشقاق: 6)، وقال: (أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ) (الشورى: 53)، إلى غير ذلك من الآيات التي أثبتت أنّ الكلّ سائرون إليه سبحانه وأنّ للجميع طريقاً.ثمّ بيّن أنّ الناس بإزاء هذا السبيل انقسموا إلى فئتين: فئة استجابت للداعي الإلهي: (إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال: 24) فنعمت بآثاره، وأُخرى استكبرت ولم تستجب لذلك فخرجت عن الصراط السويّ؛ قال تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (يس: 60 ـ 61) حيث بيّنت الآية أنّ الطريق ليس واحداً ذات نعت واحد، بل هو متشعّب إلى صراط مستقيم
صفحة 392
وطريق آخر وراءه، ثمّ قال تعالى: (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: 186)، وقال: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر: 60) حيث أثبتت الآيتان أنّ الطريق الأقرب للوصول إليه هو طريق عبادته ودعائه، وأنّ الذين يستكبرون عن ذلك سبيلهم بعيدة، لذا وصفهم في قوله: (أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) (السجدة: 44).إذن فالسبيل إلى الله سبيلان: سبيل قريب، وهو سبيل المؤمنين، وسبيلٌ بعيد، وهو سبيل غيرهم. فهذا نحو اختلاف في السبيل.
وهناك نحو آخر من الاختلاف؛ قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ) (الأعراف: 40)، ولولا طروق من متطرّق لم يكن للباب معنىً، فهناك طريق من السفل إلى العلوّ؛ لقوله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) (فاطر: 10)، ثمّ قال: (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى) (طه: 81) والهويّ هو السقوط إلى أسفل، ومعنى ذلك أنّ هناك طريقاً آخر آخذاً في السفالة والانحدار. ثمّ بيّن في قوله: (وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) (البقرة: 108) أنّ الضلال عن سواء السبيل نحوٌ من الشرك.
وبهذا ينقسم الناس في طرقهم بإزاء الهداية الإلهيّة إلى ثلاثة أقسام:
- مَن طريقه إلى فوق، وهم الذين يؤمنون بآيات الله ولا يستكبرون عن عبادته. وهم المُنعم عليهم.
- مَن طريقه إلى السفل، وهم المغضوب عليهم.
- ومَن ضلَّ الطريق، وهو حيران فيه، وهم الضالّون.
تشتمل هذه الآية على مفردات ثلاث: أنعمت، المغضوب، الضالّين.