الربّ اصطلاحاً
يتأسّس المدلول الاصطلاحي للربّ والربوبيّة على التحديد اللغوي الذي يتمحور حول التدبير والإنماء وسوق الأشياء صوب كمالها اللائق بها. ومن ثمّ فأيّ حديث عن التدبير الوجودي والكوني الموحّد هو إثبات للربوبيّه وحديث عن وحدة الربّ.إذن فالربوبيّة مآلها إلى التدبير، والتدبير هو الإتيان بالشيء عقيب الشيء، أي ترتيب الأشياء المتعدّدة المختلفة ونظمها بوضع كلّ شيء في موضعه الخاصّ به، بحيث يلحق بكلّ منها ما يقصد به من الغرض والفائدة، ولا يختلّ الحال بتلاشي الأصل وتفاسد الأجزاء وتزاحمها. يُقال: دبّر أمر البيت أي نظّم أموره والتصرّفات العائدة إليه بحيث يؤدّي إلى صلاح شأنه وتمتّع أهله بالمطلوب من فوائده.
وبهذا يكون تدبير أمر العالم نظم أجزائه نظماً جيّداً متقناً بحيث يتوجّه كلّ
صفحة 265
شيء إلى غايته المقصودة منه، وهي آخر ما يمكنه من الكمال الخاصّ به ومنتهى ما ينساق إليه من الأجل المسمّى. ثمّ تدبير الكلّ بإجراء النظام العامّ العالمي بحيث يتوجّه إلى غايته النهائيّة، وهي الرجوع إلى الله وظهور الآخرة بعد الدُّنيا .ممّا تقدّم يتبيّن أنّ إطلاقه على غير ذلك كالمالكيّة والمصاحبة والسيادة والقيمومة والزيادة والنموّ والعلوّ والملازمة والإقامة والإدامة وما يشابهها، كلّ منها إنّما هي من لوازم وآثار الربوبيّة، حيث تستلزم في كلّ مورد ما يقتضيه بحسب حاجته. وبعبارة جامعة: التربية هي إصلاح الشيء مطلقاً من رزق وعطاء ما يحتاج إليه ودفع ما يضارّه وينافيه.
على هذا فما ذكره بعض المفسّرين ـ تبعاً لجمع من اللغويّين ـ أنّ الربّ بمعنى المالك والمَلِك أو الصاحب، لا ينسجم مع استعمالات هذه المفردة، وذلك لأنّ الملك شيء وربوبيّته شيءٌ آخر؛ قال تعالى: (ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) (الزمر: 6)، وقال: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ) (الناس: 1 ـ 3)، فإنّ فيه خصوصيّة ليست هي في المالك والمَلِك والصاحب وهي الربوبيّة الحقيقيّة الناشئة من الحكمة الكاملة التي لا يتصوّر النقص فيها بوجه. فالتكوين شيء وتنظيم عالم التكوين بتربيبه على النظام الأحسن شيء آخر؛ قال تعالى: (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) (الأنعام: 164)، ويدلّ على ذلك مضافاً إلى ما ذكر، عدم صحّة استعمال كلّ واحد منها مقام الآخر في الاستعمالات الصحيحة إلاّ بالعناية.
وعلى أيّة حال فإنّ الربّ مجمع جميع أسماء أفعال الله المقدّسة لأنّ جميع أفعاله تبارك وتعالى متشعّبة من جهة تدبيره تعالى.
وتربيبه في كلّ موجود بحسبه؛ فالربّ مظهر الرحمة والخلق والقدرة والتدبير والحكمة، فهو الشامل لما سواه تعالى، فإنّهم المربوبون له تعالى على
صفحة 266
اختلاف مراتبهم.والربوبيّة لها مراتب تختلف باختلاف مراتب المربوب والمتعلّق، فكم فرق بين الربوبيّة المتعلّقة برسوله الأكرم صلّى الله عليه وآله، حيث قال: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ) (العلق: 3)، وقال: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) (النجم: 42)، أو سائر الأنبياء العظام أو الملائكة المقرّبين، وما تعلّق بسائر الناس؟!
ولعلّه لأجل ما تقدّم لم يرد في القرآن الكريم دعاء من عباده إلاّ مبدوءاً باسم الربّ؛ قال تعالى: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً) (البقرة: 201)، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) (آل عمران: 147)، (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) (إبراهيم: 35)، وغيرها من الآيات المباركة. والسرّ في ذلك هو إفادة هذه اللفظة حالة الانقطاع إلى الله تعالى أكثر من غيرها، ولذا وقع من أنبيائه العظام في تلك الحالة؛ قال تعالى عن لسان نبيّنا الأعظم صلّى الله عليه وآله: (يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) (الفرقان: 30)، وقال على لسان نوح عليه السلام: (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً) (نوح: 5). فليس في أسمائه المقدّسة أعمّ نفعاً وأكمل عنايةً ولفظاً من هذا الاسم المبارك.