(7) المفردة الثالثة: العالمين
«عالمين» جمع «عالم» وهو أيضاً جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط والنفر. ولم يجمع «فاعَلٌ» هذا الجمع إلاّ في لفظين: «عالَم» و «ياسَم» اسم للزهر المعروف بالياسمين، قيل جمعوه على ياسمُون وياسمين.واشتقاقه من العلم أو من العلامة، لأنّ كلّ جنس له تميّز عن غيره فهو له علامة أو هو سبب العلم به فلا يختلط بغيره.
وهذا البناء مختصّ بالدلالة على الآلة غالباً كخاتم وقالب وطابع لما يختم به ولما يقلب به ولما يطبع به، فجعلوا العوالم لكونها كالآلة للعلم بالصنائع أو
صفحة 267
العلم بالحقائق. ولقد أبدع العرب في هذه اللطيفة إذ بنوا اسم جنس الحوادث على وزن فاعل لهذه النكتة.وله إطلاقات متعدّدة:
- الأوّل: خصوص الإنسان؛ لقوله تعالى: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ) (الشعراء: 165)، وهو المنقول عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام والمأخوذ من بحر أهل البيت، وربّ البيت أدرى. ولعلّ الوجه فيه الإشارة إلى أنّ الإنسان هو المقصود بالذات من التكليف بالحلال والحرام وإرسال الرُّسل عليهم الصلاة والسلام، ولأنّه فذلكة جميع الموجودات ونسخة جميع الكائنات المنقولة من اللوح الربّاني بالقلم الرحماني، ومن هذا الباب ما نسب لباب مدينة العلم عليّ عليه السلام:
دواؤك فيك وما تبصرُ وداؤك مـنك ولا تَشـعرُوتزعمُ أنّك جرمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبرُ
ومن تأمّل في ذاته وتفكّر في صفاته، ظهرت له عظمة باريه وآيات مبديه (وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الذاريات: 20ـ21) بل «من عرف نفسه عرف ربّه».- الثاني: الإنس والجنّ؛ فيكون المراد بالعالمين عوالم الإنس والجنّ وجماعاتهم، ويؤيّده ورود هذا اللفظ بهذه العناية في القرآن كقوله تعالى: (وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران: 42)وقوله: (لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً) (الفرقان: 1) وقوله: (وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) (آل عمران: 96) وقوله: (ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) (الأنعام: 90).
- الثالث: خصوص ما يظهر فيه معنى التربية؛ حيث ذكروا أنّ العرب لم يجمعوا لفظ العالم هذا الجمع إلاّ لنكتة تلاحظها فيه وهي: أنّ هذا اللفظ لا يُطلق عندهم على كلّ كائن وموجود كالحجر والتراب، وإنّما يطلقونه على كلّ
صفحة 268
جملة متمايزة، لأفرادها صفات تقرّبها من العاقل الذي جمعت جمعه إن لم تكن منه فيُقال: عالم الإنسان، وعالم الحيوان، وعالم النبات، ونحن نرى أنّ هذه الأشياء هي التي يظهر فيها معنى التربية الذي يعطيه لفظ «الربّ» لأنّ فيها مبدؤها وهو الحياة والتغذّي والتولّد، وهذا ظاهر في الحيوان.وهذا الإطلاق إن كان المراد به التغليب فله وجه، وإن كان المراد عدم الصدق الحقيقي على غير هذه الأمور فهو مخالف لصحّة إطلاق عالم التكوين، فإنّ إطلاقه يشمل الجمادات أيضاً، وإنّ أثر التربية يظهر في كلّ ما يسمّى شيئاً، خصوصاً إذا قبلنا أنّ كلّ شيء له نحو من العلم والشعور والحركة كما في قوله: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (الإسراء: 44)، لذا قال تعالى: (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) (الأنعام: 164).
عن الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام في بيان المراد من العالمين: «هم الجماعات من كلّ مخلوق من الجمادات والحيوانات، فأمّا الحيوانات فهو يقلّبها في قدرته، ويغذوها من رزقه، ويحوطها بكنفه، ويدبّر كلاًّ منها بمصلحته، وأمّا الجمادات فهو يمسكها بقدرته، ويمسك المتّصل منها أن يتهافت، ويمسك المتهافت منها أن يتلاصق، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه، ويمسك الأرض أن تنخسف إلاّ بأمره؛ إنّه بعباده رؤوفٌ رحيم» (1).
هذه الإطلاقات جميعاً وغيرها وإن كانت صحيحة في نفسها لما ذكر من الآيات وبعض الروايات التي تؤيّد صحّة استعمالها، إلاّ أنّ المناسب للمقام هو العموم كما سيتّضح.
- الرابع: جميع ما سوى الله تعالى. إنّ المراد من العالمين جميع عوالم الوجود الإمكانيّة من العلويات والسفليّات والمجرّدات والمادّيات والروحانيّات
ــــــــــ
(1) تفسير نور الثقلين، مصدر سابق: الحديث: 73، ج1 ص17.
صفحة 269
والجسمانيّات وما يرى منها وما لا يرى، وفي كلمة واحدة جميع ما سوى الله تعالى، وذلك لما تقرّر في محلّه من إفادة الجمع المحلّى بالألف واللام للعموم والاستغراق حيث لا عهد، وما ذكر في بعض الروايات أو الكلمات من التخصيص بالعاقل أو الناس فإنّه من باب المثال لا القصر.وليس هذا اللفظ اسماً لمجموع ما سوى الله تعالى بحيث لا يكون له إلاّ أجزاء تركيبيّة يمتنع من أجلها الجمع كما توهّم، بل إنّما الجمع بلحاظ كلّ عالم عالم، ومن المعلوم أنّه بهذا اللحاظ كان للجمع أفراد لا أجزاء، وإن كان لكلّ فرد من العالمين أجزاء تشكّل عالماً، كعالم الملائكة وعالم الإنس وعالم الجنّ وعالم الأفلاك وعالم النبات وعالم الحيوان وغيرها.
قال تعالى: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (الشعراء: 23 ـ 28). وقال: (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الجاثية: 36).