الأُولى: سبب العدول من الغيبة إلى الخطاب
الانتقال من أسلوب الحديث بطريق الغائب الذي ابتدأ من قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إلى قوله: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) إلى أسلوب الخطاب ابتداءً من قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) إلى آخر السورة، فنّ بديع من فنون الكلام البليغ عند العرب، وهو المسمّى في علم البلاغة «التفاتاً». وضابط ذلك أنّ المتكلّم بعد أن يعبّر عن ذاتٍ بأحد طرق ثلاثة من تكلّم أو غيبة أو خطاب ينتقل في كلامه ذلك فيعبّر عن تلك الذات بطريق آخر.ولأهل البلاغة عناية بالالتفات، لأنّ فيه تجديد أسلوب التعبير عن المعنى بعينه، تحاشياً من تكرّر الأسلوب عدّة مرّات، فيحصل بتجديد الأسلوب تجديد نشاط السامع كي لا يملّ من إعادة أسلوب بعينه.
قال السكاكي ـ بعد أن ذكر أنّ العرب يستكثرون من الالتفات ـ: «أفتراهم يُحسنون قِرى الأشباح فيخالفون بين لون ولون وطعْم وطعْم، ولا يحسنون قِرى الأرواح فيخالفون بين أسلوب وأسلوب».
فهذه فائدة مطّردة في الالتفات، إلاّ أنّ الأمر لا يقتصر على ذلك بل هناك لطائف ومناسبات أخرى كثيرة، يمكن استخراجها منها:
الأولى: لمّا كان المملوك في الملك الحقيقي متقوّم الوجود بمالكه، فلا يكون حاجباً عن مالكه ولا يحجب عنه، فإنّك إذا نظرت إلى دار زيد، فإن نظرت إليها من جهة أنّها دار أمكنك أن تغفل عن زيد، وإن نظرت إليها بما أنّها ملك زيد لم يمكنك الغفلة عن مالكها وهو زيد.
ولما عرفت أنّ ما سواه تعالى ليس له إلاّ المملوكيّة فقط، وهذه حقيقته،
صفحة 321
فشيءٌ منه ـ في الحقيقة ـ لا يُحجب عنه تعالى، ولا النظر إليه يجامع الغفلة عنه تعالى، فله تعالى الحضور المطلق أي حاضر مع كلّ شيء، قال سبحانه: (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (فصّلت: 53 ـ 54) أي كون ربّك مشهوداً على كلّ شيء، إذ ما من شيء إلاّوهو فقير مملوك من جميع جهاته إليه، متعلّق به، وهو تعالى قائم به قاهرٌ فوقه، فهو تعالى معلوم لكلّ شيء، حاضر عند كلّ شيء وإن لم يعرفه بعض الأشياء.وإذا كان كذلك فحقّ عبادته تعالى أن تكون عن حضور من الجانبين:
- أمّا من جانب الربّ عزّ وجلّ، فأن يُعبد عبادة معبود حاضر، كما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «أن تعبد الله كأنّك تراه»(1).
وهذا هو الموجب للالتفات المأخوذ في قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) عن الغيبة إلى الحضور.
- وأمّا من جانب العبد، فأن يكون عبادته عبادة عبد حاضر من غير أن يغيب في عبادته، فيكون عبادته صورة فقط من غير معنىً، وجسداً من غير روح؛ كأن يشتغل بنفسه فيكون منافياً لمقام العبوديّة التي لا تلائم الإنّية والاستكبار، وكأنّ الإتيان بلفظ المتكلّم مع الغير للإيماء إلى هذه النكتة، فإنّ فيه هضماً للنفس بإلغاء تعيّنها وشخوصها وحدّها المستلزم لنحو من الإنيّة والاستقلال، بخلاف إدخالها في الجماعة وخلطها بسواد الناس، فإنّ فيه إمحاء التعيّن وإعفاء الأثر فيؤمن به ذلك.
الثانية: أنّ الله سبحانه بعد أن ذكر يوم الدِّين ـ وهو يوم القيامة ـ التفت إلى الخطاب للإشارة إلى أنّه إذا قامت القيامة على ساق وكان إلى ربّك يومئذ
ــــــــــ
(1) رسالة الولاية، السيّد محمّد حسين الطباطبائي، مؤسّسة البعثة، طهران، 1981م: ص18.
صفحة 322
المساق، هناك يفوز المؤمن بلذّة الحضور ويتبلّج جبينه بأنوار الفرح والسرور، ويخلو به الدّيان وليس بينه وبينه حجاب.وليس ذلك بالضرورة في النشأة الأُخرى، بل يمكن للبعض أن يموت وهو في هذه النشأة وذلك من خلال الموت الإرادي الذي يحصل للسالكين المتوجّهين إلى الحقّ قبل وقوع الموت الطبيعي، فينكشف للسالك ما ينكشف للميّت، وهو المسمّى بالقيامة الصغرى.