Rss Feed

  1. الأمر الثاني: العلاقة التي تحكم الأسماء الإلهيّة
    ما نريد معالجته هو بيان طبيعة العلاقة القائمة بين الأسماء الإلهيّة، أهي علاقة أفقيّة بمعنى أنّها في عَرْض واحد، أم أنّها محكومة لعلاقة التداخل، بأن يكون بعضها محيطاً بالبعض الآخر حتّى نصل إلى اسم يكون محيطاً بالجميع فيستحقّ أن يكون هو الاسم الأعظم؟
    التدبّر في مفاهيم الصفات والأسماء التي يتّصف بها الحقّ سبحانه من جهة، واختلاف الآثار الموجودة في عالمنا سعةً وضيقاً من جهة أخرى، يؤدّي بنا إلى أنّ الصحيح هو الثاني.
    في ضوء ذلك راح العرفاء يقسّمون أسماء الله سبحانه إلى أسماء كلّية وجزئيّة، والمقصود من الكلّي والجزئي هنا ليس معناهما الفلسفي أو المنطقي، بل المقصود المعنى العرفاني الذي يعني السعة الوجوديّة والضيق الوجودي. فكلّما كان الشيء أوسع وجوداً وأبعد أثراً في هذا العالم فهو كلّي، وكلّما كان أضيق وأقلّ تأثيراً فهو جزئيّ. المناط في هذا التقسيم للأسماء ليست معايير الكلّي والجزئي في الفلسفة والمنطق كما مرّ، بل الآثار المترتّبة عليها وفاعليّتها الوجوديّة لأنّها حقائق خارجيّة.

    صفحة 211
    فمثلاً: إذا نسبنا العلم إلى الحياة فإنّ الحياة أعمّ من العلم؛ لما ثبت من أنّ الحياة سنخ صفة يلزمها العلم والقدرة، فالعلم والقدرة من لوازم الحياة، حيث إذا ثبت أنّ موجوداً ما حيّ فيثبت له العلم والقدرة. وعلى هذا إذا ما تمّت نسبة العلم إلى الحياة فالعلم خاصّ والحياة عامّة. أمّا إذا ما نسب العلم إلى السميع والبصير واللطيف والشهيد والخبير، فيكون عامّاً وهذه الأسماء خاصّة، ويكون كليّاً وهذه الأخيرة جزئية، كما يكون وسيعاً والأسماء الأخيرة ضيّقة.
    كذلك الحال بشأن الرازق فهو خاصّ بالنسبة إلى الرحمن وعامّ بالنسبة إلى الشافي والناصر والهادي والمعطي والواهب. فإذا ما تمّت نسبة الرازق إلى الرحمن، فمن الواضح أنّ الرازق يكون اسماً خاصّاً ضيّقاً وجزئيّاً بالنسبة إلى الرحمن (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (الأعراف: 156)، والرحمن اسماً عامّاً واسعاً كلّياً، أمّا حين ينسب الرازق إلى الشافي والناصر والهادي والمُعطي والواهب فسيكون عامّاً.
    والقاعدة العامّة: أنّنا حين ننسب الأسماء بعضها إلى بعض، فإنّ الاسم يكون واسعاً وعامّاً وكلّياً بالنسبة إلى ما دونه، وخاصّاً وضيّقاً وجزئيّاً بالنسبة إلى ما فوقه، حتّى ينتهي النسق الترتيبي إلى ذروة عليا بحسب التسلسل الأعلائي. فإذا ما صعدنا حلقة حلقة نحو الأعلى ننتهي إلى اسم لا يوجد فوقه اسم من حيث الفاعليّة الوجوديّة والآثار المترتّبة عليه. وهذه الذروة أو الاسم أو الحقيقة العليا هي التي يُطلق عليها في النصوص الروائية الواردة عن النبي وأهل البيت عليهم صلوات الله، بل في التراث الإسلامي عامّة، الاسم الأعظم. كما قد يعبّر عنه في بعض الأدعية بالاسم الأعظم الأعظم الأعظم.
    والحاصل: فللأسماء الحُسنى عَرْض عريض تنتهي من تحت إلى اسم أو أسماء خاصّة لا يدخل تحتها اسمٌ آخر، ثمّ تأخذ في السعة والعموم، ففوق كلّ

    صفحة 212
    اسم ما هو أوسع منه وأعمّ حتّى تنتهي إلى اسم الله الأكبر الذي يسع وحده جميع حقائق الأسماء وتدخل تحته شتات الحقائق برمّتها، وهو الذي نسمّيه غالباً بالاسم الأعظم.
    ومن المعلوم أنّه كلّما كان الاسم أعمّ كانت آثاره في العالم أوسع، والبركات النازلة منه أكبر وأتمّ، لمّا أنّ الآثار للأسماء العينيّة كما عرفت، فما في الاسم من حال العموم والخصوص يحاذيه بعينه أثره، فالاسم الأعظم ينتهي إليه كلّ أثر ويخضع له كلّ أمر.

فهرس الكتاب