الرابعة: صحّة العبادة بهذه الطرق
ثمّ إنّه لابدّ أن يعلم أنّ هذه الطرق تشترك جميعاً في أنّها تحقّق العبادة الصحيحة، ذلك أنّ العبادة ـ كما عرفت ـ لإحدى خصال ثلاث؛ إمّا رجاءً لما عند المعبود من الخير فيعبد طمعاً في الخير، وإمّا خوفاً ممّا في الإعراض عنه وعدم الاعتناء بأمره من الشرّ، وإمّا لأنّه أهلٌ للعبادة والخضوع.والله سبحانه هو المالك لكلّ خير، لا يملك شيء شيئاً من الخير إلاّ ما ملّكه هو إيّاه، وهو المالك ـ مع ذلك ـ لما ملّكه والقادر على ما عليه أقدره، وهو المُنعم المفضل المحيي الشافي الرازق الغفور الرحيم الغنيّ العزيز، وله كلّ اسم فيه معنى الخير، فهو سبحانه المستحقّ للعبادة رجاءً لما عنده من الخير دون غيره.
والله سبحانه هو العزيز القاهر الذي لا يقوم لقهره شيء، وهو المنتقم ذو البطش شديد العقاب، لا شرّ لأحد عند أحد إلاّ بإذنه، فهو المستحقّ لأن يُعبد خوفاً من غضبه لو لم يخضع لعظمته وكبريائه.
والله سبحانه هو الأهل للعبادة وحده، لأنّ أهليّة الشيء لأن يخضع له لنفسه ليس إلاّ لكمال، فالكمال وحده هو الذي يخضع عنده النقص الملازم للخضوع، وهو إمّا جمال تنجذب إليه النفس انجذاباً أو جلال يخرّ عنده اللبّ ويذهب دونه القلب، وله سبحانه كلّ الجمال، وما من جمال إلاّ وهو آية
ــــــــــ
(1) المصدر السابق: ج3 ص386.
صفحة 339
لجماله، وله سبحانه كلّ الجلال وكلّ ما دونه آيته، فالله سبحانه لا إله إلاّ هو ولا معبود سواه، لأنّه له الأسماء الحسنى.أضف إلى ذلك بعض الآيات المتقدِّمة، حيث دلّت على صحّة العبادة إذا صدرت عن خوف أو طمع. فقد مدح الله سبحانه من يدعوه خوفاً أو طمعاً (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) (السجدة: 16)؛ وذلك يقتضي محبوبيّة هذا العمل، وأنّه ممّا أمر به تعالى وأنّه يكفي في مقام الامتثال (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) (الأعراف: 56) وكذلك ما ورد في قوله تعالى: (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً) (الإسراء: 57).
ويؤيّد ذلك أيضاً ما جاء في بعض نصوص الروايات المتقدِّمة، أنّ عبادة الأحرار هي «أفضل العبادة» ولا يخفى أنّ صيغة التفضيل هذه دالّة على أنّ كلاًّ من هذين الطريقين لهما فضل في الجملة أيضاً، وهذا ما صرّح به جملة من المتكلِّمين والفقهاء على حدٍّ سواء؛ قال المجلسي في «مرآة العقول» في ظلّ هذه الرواية: «وحاصل المعنى أنّ العبادة الصحيحة المترتّبة عليها الثواب والكرامة في الجملة ثلاثة أقسام، وأمّا غيرها كعبادة المرائين ونحوها فليست بعبادة ولا داخلة في المقسم» (1).