Rss Feed

  1. الثالثة: الفوارق بين هذه الطرق
    ممّا تقدّم اتّضح أنّ عبادة الله سبحانه تارةً تكون من خلال الخوف من العذاب، فتبعث الإنسان إلى التروك، وهو الزهد في الدُّنيا للنجاة في الآخرة، فالزاهد ـ في هذا الطريق ـ من شأنه أن يتجنّب المحرّمات أو ما في معنى الحرام وهو ترك الواجبات، وأخرى تكون من خلال الطمع في الثواب، فتبعثه إلى الأفعال وهي العبادة في الدُّنيا بالعمل الصالح لنيل نِعم الآخرة والجنّة، فالعابد ـ في هذا الطريق ـ من شأنه أن يلتزم الواجبات أو ما في معنى الواجب وهو ترك الحرام.
    والطريقان معاً إنّما يدعوان إلى الإخلاص للدِّين لا لربّ الدِّين، وثالثة تكون من خلال محبّة الله سبحانه فإنّها تطهّر القلب من التعلّق بغيره تعالى، من معبود أو مطلوب كصنم أو ندّ أو غاية دنيويّة، بل ولا مطلوب أخرويّ كفوز بالجنّة أو خلاص من النار، وهذه المحبّة تقصر القلب في التعلّق به تعالى، وبما ينسب إليه من دين أو نبيّ أو وليّ وسائر ما يرجع إليه تعالى بوجه، فإنّ من أحبَّ شيئاً أحبّ آثاره أيضاً.
    نعم، إذا نُسبت هذه الطرق بعضها إلى بعض، فإنّه ينطبق عليها القاعدة المعروفة «حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين» لأنّ أهل طريق الحبّ يرون أنّ الطريقين الآخرين ـ خوفاً أو طمعاً ـ لا يخلوان من شرك خفيّ، فإنّ الذي يعبده تعالى خوفاً من عذابه، يتوسّل به تعالى (أي يجعله وسيلة) إلى دفع العذاب عن نفسه، كما أنّ من يعبده طمعاً في ثوابه، يتوسّل به تعالى إلى الفوز بالنعمة والكرامة، ولو أمكنه الوصول إلى ما يبتغيه من غير أن يعبده لم يعبده ولا حام حول معرفته.
    إذن فالعبادة إنّما تكون عبادة حقيقيّة إذا كانت عن خلوص من العبد، ولا يتمّ ذلك إلاّ إذا لم يشتغل بغيره تعالى في عمله، فيكون قد أعطاه الشركة مع الله

    صفحة 335
    سبحانه في عبادته، ولم يتعلّق قلبه في عبادته رجاءً أو خوفاً هو الغاية في عبادته كجنّة أو نار، فيكون عبادته له لا لوجه الله.
    وقد أشار الشيخ ابن سينا إلى الفوارق بين هذه الطرق بقوله:
    «العارف يريد الحقّ الأوّل لا لشيء غيره، ولا يؤثر شيئاً على عرفانه، وتعبّده له فقط لأنّه مستحقّ للعبادة، ولأنّها نسبة شريفة إليه، لا لرغبة أو رهبة، وإن كانتا فيكون المرغوب فيه أو المرهوب عنه هو الداعي وفيه المطلوب، ويكون الحقّ ليس هو الغاية بل الواسطة إلى شيء غيره، هو الغاية وهو المطلوب دونه» (1).
    أي إنّ إرادة العارف ـ وهم أصحاب الطبقة الثالثة ـ وتعبّده إنّما يتعلّقان بالحقّ الأوّل لذاته، ولا يتعلّقان بغيره لذات ذلك الغير، بل إن تعلّقا بغير الحقّ تعلّقا لأجل الحقّ أيضاً. لذا قال: «ولا يؤثر شيئاً على عرفانه» بمعنى أنّه لا يؤثر شيئاً غير الحقّ على عرفانه، فإنّ الحقّ مؤثر على عرفانه، لأنّ العرفان ليس بمؤثر لذاته عند العارف. وهذا ما صرّح به في قوله: «من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثاني، ومن وجد العرفان كأنّه لا يجده بل يجد المعروف به فقد خاض لجّة الوصول» (2) وذلك لأنّ العرفان حالة للعارف بالقياس إلى المعروف، فهي لا محالة غير المعروف، على هذا فمن كان غرضه من العرفان نفس العرفان فهو ليس من الموحّدين لأنّه يريد مع الحقّ شيئاً غيره. وأمّا من عرف الحقّ وغاب عن ذاته فهو غائب لا محالة عن العرفان الذي هو لذاته، فهو قد وجد العرفان كأنّه لا يجده، بل يجد المعروف فقط، وهو الخائص لُجّة الوصول أي معظمه.
    وهذا بخلاف غير العارف ـ وهم أصحاب الطبقة الأُولى والثانية ـ فإنّه
    ــــــــــ
    (1) الإشارات والتنبيهات، ابن سينا، المطبعة الحيدريّة، النجف الأشرف، 1403هـ: ج3 ص375.
    (2) المصدر السابق: ج3 ص390.


    صفحة 336
    يؤثر نيل الثواب والاحتراز عن العقاب على الحقّ، وهو الذي عبّر عنه الشيخ: «المستحلّ توسيط الحقّ» (1)؛ أي جعل الحقّ واسطة للوصول إلى لذّة الجنّة ونعيمها أو الخلاص من النار وآلامها.
    والسبب في ذلك هو أنّ غير العارف ـ كما يقول الشيخ ـ: «إنّه لم يطعم لذّة البهجة به فيستطعمها، إنّما معارفته مع اللذّات المخدجة، فهو حنون إليها، غافل عمّا وراءها. وما مَثَله بالقياس إلى العارفين إلاّ مثل الصبيان بالقياس إلى المحنّكين، فإنّهم لمّا غفلوا عن طيّبات يحرص عليها البالغون، واقتصرت بهم المباشرة على طيّبات اللعب، صاروا يتعجّبون من أهل الجدّ إذا ازورّوا عنها، عايفين لها عاكفين على غيرها.
    كذلك من غضّ النقص بصره عن مطالعة بهجة الحقّ، أعْلق كتفيه بما يليه من اللذّات، لذّات الزور، فتركها في دنياه عن كُره، وما تركها إلاّ ليستأجل أضعافها. وإنّما يعبد الله ويطيعه ليخوّله في الآخرة شبعة منها. فيُبعث إلى مطعم شهيّ ومشرب هنيّ ومنكح بهيّ إذا بُعثر عنه، فلا مطمح لبصره في أُولاه وأُخراه إلاّ إلى لذّات قبقبه وذبذبه.
    والمستبصر بهداية القدس في شجون الإيثار، قد عرف اللذّة الحقّ وولّى وجهه سمتها، مسترحماً على هذا المأخوذ عن رشده إلى ضدّه، وإن كان ما يتوخّاه بكدّه مبذولاً له بحسب وعده» (2).
    والغرض من هذا البيان ـ على طوله ـ تمهيد العذر لمن يجوّز أن يجعل الحقّ تعالى واسطة في تحصيل شيء آخر غيره، وهو ممّن يتزهّد في الدُّنيا ويعبد الحقّ رغبةً في ثواب أو رهبةً من عقاب، ووجه العذر بيان نقصه في معارف التوحيد.
    ــــــــــ
    (1) المصدر السابق: ج3 ص377.
    (2) المصدر السابق: ج3 ص377.


    صفحة 337
    وفي عبارات الشيخ لطائف كثيرة ـ كما قال المحقّق الطوسي في الشرح ـ منها:
    - وصف اللذّات الحسّية بنقصان الخلْقة، وهو نقصان لا يمكن أن يزول، وهو ما أشار إليه بقوله: «إنّما معارفته مع اللذّات المُخدجة» فإنّ المخدج: هو الناقص، يقال: أخدجت الناقة، إذا جاءت بولدها ناقص الخلْق.
    - وتشبيه من لم يقدر على مطالعة البهجة الحقيقيّة بالأعمى الذي يطلب شيئاً، فإنّه يعلّق يده بما يليه، سواء كان ما أعلق به يده مطلوباً أو لم يكن. وهو المشار إليه بقوله: «كذلك من غضّ النقص بصره عن مطالعة بهجة الحقّ أعلق كتفيه بما يليه».
    - والتنبيه على أنّ زهد غير العارف زهد عن كُره، مع كونه في صورة الزهّاد أحرص الخلق بالطبع على اللذّات الحسّية؛ فإنّ التارك شيئاً استأجل أضعافه، أقرب إلى الطمع منه إلى القناعة.
    من هنا ذكر الشيخ في موضع آخر: أنّ غرض غير العارف في الزهد والعبادة متمايز عن غرض العارف؛ قال: «الزهد عند غير العارف معاملةٌ ما، كأنّه يشتري بمتاع الدُّنيا متاع الآخرة، وعند العارف تنزّه ما عمّا يشغل سرّه عن الحقّ، وتكبّر على كلّ شيء غير الحقّ، والعبادة عند غير العارف معاملة ما، كأنّه يعمل في الدُّنيا لأجرة يأخذها في الآخرة هي الأجر والثواب. وعند العارف رياضة لهممه وقوى نفسه المتوهّمة والمتخيّلة، ليجرّها بالتعويد عن جناب الغرور إلى جناب الحقّ، فتصير مسالمة للسرّ الباطن حينما يستجلي الحقّ لا ينازعه، فيخلص السرّ إلى الشروق الساطع، ويصير ذلك ملكة مستقرّة، كلّما شاء السرّ اطلع إلى نور الحقّ، غير مزاحم من الهمم بل مع تشييع منها له، فيكون بكلّيته منخرطاً في سلك القدس» (1).
    ــــــــــ
    (1) المصدر السابق: ج3 ص370.

    صفحة 338
    ثمّ بيّن الشيخ أنّ آخر المقامات التي يصل إليها العارف في سلوكه إلى الله تعالى، هو مقام المحو والفناء، فقال: «ثمّ إنّه ـ أي العارف ـ ليغيب عن نفسه فيلحظ جناب القدس فقط، وإن لحظ نفسه فمن حيث هي لاحظة لا من حيث هي بزينتها، وهناك يحقّ الوصول»(1).

فهرس الكتاب