الثانية: أهمّية البحث في توحيد الربوبيّة
قوله تعالى: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) يعطي حصر الربوبيّة في الله تعالى من كلّ وجه. فهذه الكلمة إقرار بالتوحيد الربوبي وأنّه لا ربّ غيره ولا يتّصف بشيء من التربية سواه.وهو توحيد غامض صعب المنال ولا يبلغ غوره ولا يدرك معناه على ما ينبغي إلاّ من استقام على الطريقة وسُقي ماءً غدقاً. وهو التوحيد الذي يقوم على أساسه التوكّل وخلوص الإيمان من الشرك بأنواعه، وتتجلّى مظاهره في المخلوقين من خلال أسماء الله الحسنى كالشافي والرازق والرحيم والودود
صفحة 271
وغيرها ممّا يغفل الخلق عن حقائقها المندرجة تحت كلمة الجلالة «الله» الجامع لجميع المعاني الكماليّة.ومن هنا جيء بلفظ «ربّ العالمين» ليكون مظهراً لما للفظ الجلالة من آثار، وتفصيلاً لإجمال الذات المتعالية، وإشعاراً للسبب الذي من أجله يكون الثناء له تعالى بالاستحقاق ذاتاً، لأنّ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّية.
والربوبيّة المطلقة هي مفرق الطرق بين وضوح التوحيد الكامل الشامل والغبش الذي ينشأ من عدم وضوح هذه الحقيقة بصورتها القاطعة. وكثيراً ما كان الناس يجمعون بين الاعتراف بالله بوصفه الموجد الواحد والخالق لهذا الكون، والاعتقاد بتعدّد الأرباب الذين يتحكّمون في الحياة. فهذه كتب الملل والنحل تحكي أحوال هؤلاء، سواء في ماضي البشريّة أو في العصور التي اقترنت ببعثة خاتم النبيّين محمّد صلّى الله عليه وآله، في ما حدّثت به عن ديانات الوثنيّين ومعتقداتهم.
فالوثنيّون يؤمنون أنّ الله سبحانه هو الخالق، لكنّهم مع ذلك يشركون في الربوبيّة، هذه الحقيقة بما تنطوي عليه من مفارقة صارخة وغريبة يتحدّث عنها القرآن الكريم بصراحة، كما في قول الله عزّ وجلّ: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ) (لقمان: 25). فمع إيمانهم هذا بتوحيد الخالقيّة يتّجهون في تدبير هذا العالم إلى ما سوى الله، في ثنائيّة هابطة يدينها القرآن بعد أن يصفها بقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) (الزمر: 38)، إذ تتحدّث الآية صراحةً عن شرك هؤلاء وإيمانهم بأنّ هناك موجودات تخلق وتنفع بنفسها من دون الله، وأنّ الله فوّض إليها هذا الأمر.
صفحة 272
من هنا بذل الإسلام جهداً كبيراً لتقرير كلمة الفصل في هذه الحقيقة، هذا الجهد الذي تمثّله النصوص القرآنيّة الكثيرة التي أكّدت وبشكل مكرّر أن لا ربّ سواه تعالى، كما في الآية محلّ البحث. وقد لا يدرك الإنسان مدى الحاجة إلى هذا البيان المؤكّد والمكرّر، وإلى كلّ هذا التدقيق الذي تتبّع كلّ مسالك الضمير، ما لم يقف على ذلك الركام من العقائد والتصوّرات والأساطير والأوهام والتيه الشامل الذي كانت البشريّة تهيم فيه. لكن مراجعة ذلك الركام الثقيل تكشف عن ضرورة ذلك الجهد المتطاول، كما تكشف عن مدى عظمة الدور الذي قامت به هذه العقيدة وتقوم في تحرير الضمير البشري وإعتاقه من عناء التخبّط بين شتّى الأرباب وشتّى الأوهام (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (يوسف: 39).والخلاصة: إنّ إطلاق الربوبيّة في هذه السورة وشمول هذه الربوبيّة للعالمين جميعاً، هو مفرق الطريق بين النظام والفوضى في العقيدة، لتتّجه العوالم كلّها إلى ربّ واحد، تقرّ له بالسيادة المطلقة وتنفض عن كاهلها زحمة الأرباب المتفرِّقة، ثمّ ليطمئنّ ضمير هذه العوالم إلى رعاية الله الدائمة وربوبيّته القائمة، وإلى أنّ هذه الرعاية لا تنقطع أبداً ولا تفتر ولا تغيب؛ قال تعالى: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (البقرة: 255).