البحث العاشر: التحميد والتسبيح متلازمان
من الحقائق القرآنية التي تكرّرت في مواضع متعدّدة، أنّه عندما يحكي التحميد ـ في الأعمّ الأغلب ـ عن أحد من عباده يشفعه بالتسبيح، بل يجعل التسبيح هو الأصل في الحكاية ويجعل الحمد معه. قال تعالى: (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) (الزمر: 75)، (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) (غافر: 7)، (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) (الرعد: 13)، (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (الإسراء: 44)، ولعلّ السرّ في ذلك يعود إلى أنّ الحمد وصف له تعالى، وقد نزّه سبحانه نفسه عن وصف الواصفين من عباده حيث قال: (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (الصافّات: 159)، والكلام مطلق غير مقيّد، يشمل كلّ ما يصفه به واصف، وذلك أنّ غيره تعالى لا يحيط بجمالصفحة 260
أفعاله وكمالها كما لا يحيطون بجمال صفاته وأسمائه التي منها جمال الأفعال؛ قال تعالى: (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (طه: 110)، فإذا وصفوه بوصف صار محدوداً بحدودهم مقدّراً بقدر نيلهم منه وفهمهم، فلا يستقيم ما أثنوا به من ثناء إلاّ من بعد أن ينزّهوه ويسبّحوه عمّا حدّوه وقدّروه بأفهامهم؛ قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل: 74).والنكتة التي تستند إليها الحقيقة المتقدِّمة هي: أنّ هذه المعاني والمفاهيم التي يضعها العقل إنّما هي بمنزلة الموازين والمكائيل التي يوزن ويكتال بها الوجود الخارجي والكون الواقعي، فهي حدود محدودة لا تنعزل عن هذا الشأن وإن ضممنا بعضها إلى بعض، واستمددنا من أحدها للآخر، لا يغترف بأوعيتها إلاّ ما يقاربها في الحدّ، فإذا فرضنا أمراً غير محدود ثمّ قصدناه بهذه المقاييس والمفاهيم المحدودة لم ننل منه إلاّ المحدود وهو تعالى غيره، وكلّما زدنا في الإمعان في نيله زاد تعالياً وابتعاداً.
فمفهوم العلم مثلاً هو معنى أخذناه من وصف محدود في الخارج نعدّه كمالاً لما يوجد له، وفي هذا المفهوم من التحديد ما يمنعه أن يشمل القدرة والحياة مثلاً، فإذا أطلقناه عليه تعالى ثمّ عدّلنا محدوديّته بالتقييد في نحو قولنا: علم لا كالعلوم، فهب أنّه يخلص من بعض التحديد لكنّه بعدُ مفهوم لا ينعزل عن شأنه، وهو عدم شموله ما وراءه ـ ولكلّ مفهوم حدّ لا يتعدّاه وله وراء يقصر عن شموله ـ وإضافة مفهوم إلى مفهوم آخر لا يؤدّي إلى بطلان خاصّية المفهوم، كما هو واضح.
من هنا ذكروا أنّه تعالى كما هو سبّوح فهو قدّوس أيضاً، بمعنى أنّه تعالى كما أنّه منزّه عن نقائص الإمكان والحدوث، فهو منزّه أيضاً عن جميع الكمالات اللازمة للأكوان، لأنّها من حيث إضافتها إلى الأكوان تخرج عن إطلاقها وتقع في نقائص التقييد.
صفحة 261
نعم، استثنى المخلَصين من عباده حيث قال: (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) (الصافّات: 159 ـ 160)، والاستثناء متّصل، والمعنى: هو منزّه عن كلّ ما يصفه الواصفون إلاّ عباد الله المخلَصين، حيث حكى تعالى عنهم الحمد من غير أن يشفع بالتسبيح؛ قال في خطابه لنوح عليه السلام: (فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (المؤمنون: 28)، وقال حكايةً عن إبراهيم عليه السلام: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ) (إبراهيم: 39) وقال لنبيّه محمّد صلّى الله عليه وآله في مواضع من كلامه: (وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ) (النمل: 93)، وقال حكايةً عن داود وسليمان عليهما السلام: (وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ) (النمل: 15)، وكذلك ما حكاه عن أهل الجنّة وهم المطهّرون من غلّ الصدور ولغو القول والتأثيم كقوله: (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (يونس: 10).والسبب في ذلك أنّ هؤلاء عباد أخلصهم وخصّهم لنفسه لا يشاركه فيهم أحدٌ غيره، فعرّفهم نفسه وأنساهم غيره، يعرفونه ويعرفون غيره به، فإذا وصفوه في نفوسهم وصفوه بما يليق بساحة كبريائه لأنّهم يعلمون من ربّهم ما لا يعلمه غيرهم، وإذا وصفوه بألسنتهم ـ والألفاظ قاصرة والمعاني محدودة ـ اعترفوا بقصور البيان وأقرّوا بكلال اللسان كما قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وهو سيّد المخلَصين: «لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك»، فقد أثنى على الله وتمّمه بأنّه يريد ما يريده الله من الثناء على نفسه.
وهؤلاء هم المقرّبون الفائزون بقربه تعالى، إذ لا يحول بينهم وبين ربّهم شيء ممّا يقع عليه الحسّ أو يتعلّق به الوهم أو تهواه النفس، فإنّ كلّ ما يتراءى لهم ليس إلاّ آية كاشفة عن الحقّ المتعال لا حجاباً ساتراً، فيفيض عليهم ربّهم علم اليقين ويكشف لهم عمّا عنده من الحقائق المستورة عن غيرهم، بعدما يرفع الستر فيما بينه وبينهم كما يشير إليه قوله تعالى: (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) (المطفّفين: 18 ـ 21).