الجواب عن إشكالية تحصيل الحاصل
ممّا تقدّم يمكن أن يُجاب عمّا قد يُقال: إنّ سؤال الهداية ممّن هو مهتدٍ بالفعل يلزم منه تحصيل الحاصل، وهو محال. وكذا ركوب الصراط بعد فرض كونه عليه، تحصيل للحاصل، ولا يتعقّل أن يتعلّق به سؤال.فإنّ الصراط المستقيم لمّا كان أمراً محفوظاً في سبل الله تعالى على اختلاف مراتبها ودرجاتها، صحّ أن يهدي الله الإنسان إليه وهو مهديّ، فيهديه من
صفحة 369
الصراط إلى الصراط، بمعنى أن يهديه إلى سبيل من سُبله ثمّ يزيد في هدايته فيهتدي من ذلك السبيل إلى ما هو فوقها درجة. ومن هذا القبيل قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) وهو كلام يحكيه تعالى عمّن هداه بالعبادة. ولعلّ في بعض الروايات إشارة إلى ذلك:- في معاني الأخبار عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام «في معنى قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) يعني: أرشدنا إلى لزوم الطريق المؤدّي إلى محبّتك، والمبلغ إلى جنّتك، والمانع من أن نتّبع أهواءنا فنعطب أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك» (1).
- وفي المعاني أيضاً عن عليّ عليه السلام قال: «يعني أدِمْ لنا توفيقك الذي أطعناك به في ماضي أيّامنا حتّى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا» (2).
والروايتان وجهان مختلفان في الجواب عن شبهة لزوم تحصيل الحاصل.
أمّا الأُولى، فناظرة إلى اختلاف مراتب الهداية مصداقاً، بمعنى أنّه يسأل الارتقاء من درجة من درجات الهداية إلى درجة أخرى فوقها. وهذا ما يمكن أن يستفاد من كلام أبي الحسن الرضا عليه السلام في ذيل قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ): «استرشاد لدينه واعتصام بحبله واستزادة في المعرفة له به عزّ وجلّ ولعظمته ولكبريائه» (3).
وأمّا الثانية، فناظره إلى اتّحاد مراتب الهداية مفهوماً، بمعنى أنّ الهداية المطلوبة وإن كانت مصداقاً لا تختلف عن الهداية الحاصلة، إلاّ أنّ الهداية حدوثاً غير الهداية بقاءً.
ــــــــــ
(1) بحار الأنوار، مصدر سابق: ج92 ص254.
(2) المصدر نفسه: ج92 ص254.
(3) نور الثقلين، مصدر سابق: الحديث 85 ، ج1 ص20.
صفحة 370
وبهذا يتّضح أنّ الهداية المطلوبة في المقام ليست هي الهداية التشريعيّة التي بها هدى الله جميع البشر بإرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم، كما أنها ليست هي الهداية التكوينيّة العامّة التي أودع الله في طبيعة كلّ موجود، سواء كان جماداً أم نباتاً أم حيواناً. وإنّما هي الهداية التكوينيّة الخاصّة التي خصّ الله بها بعض عباده حسب ما تقتضيه حكمته، فيهيّئ له ما به يهتدي إلى كماله الخاصّ به، ويصل إلى مقصوده الذي خلق لأجله، وقد أشير إلى هذا النوع من الهداية في غير واحد من الآيات المباركة، منها:(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) (التغابن: 11)، (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) (النور: 54)، (نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) (الشورى: 52)، (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) (الكهف: 13)، (قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) (المائدة: 15)، (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ) (محمد: 17)، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت: 69).
إلى غير ذلك من الآيات التي يستفاد منها اختصاص هداية الله تعالى وعنايته الخاصّة بطائفة خاصّة من المؤمنين، فإنّ المؤمن بعدما اعترف بأنّ الله قد منّ عليه بهداية عامّة تكوينيّة وتشريعيّة، طلب من الله تعالى أن يهديه بهدايته الخاصّة التكوينيّة التي يختصّ بها الله من يشاء من عباده (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة: 213).