Rss Feed

  1. 3: الصراط المستقيم واحد والسبيل متعدّد
    كرّر تعالى في كلامه تعالى ذكر الصراط والسبيل، ويمكن أن يلحظ أنّ هناك فروقاً بينهما هي:
    الأوّل: إنّ الصراط لم يذكر إلاَّ مفرداً، بخلاف السبيل الذي جاء بلفظ المفرد والجمع؛ قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت: 69) وقال: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) (المائدة: 15 ـ 16).
    الثاني: إنّه لم ينسب الصراط إلاَّ إلى نفسه عدا ما ورد في قوله: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) (الفاتحة: 7) بخلاف السبيل فإنّه نسب إلى نفسه وإلى غيره؛ قال تعالى على لسان يوسف عليه السلام: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي) (يوسف: 108)، وقال: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ) (لقمان: 15)، وقال: (وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) (النساء: 115).
    الثالث: لم يرد في أيّ من الآيات أنّ الله تعالى على السبيل، بخلاف الصراط فإنّه قال: (إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (هود: 56).
    بهذا يتّضح أنّ السبيل غير الصراط المستقيم، ويترتّب على ذلك:

    صفحة 367
    أولاً: إنّ كلّ واحد من هذه السبل كالإسلام والإيمان يجامع شيئاً من النقص والامتياز، وأنّها مختلفة كمالاً ونقصاً، كما أنّ مقابلاتها من الكفر والشرك والجحود كذلك، بخلاف الصراط المستقيم، والشاهد على ذلك قوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (يوسف: 106) حيث دلّت على أنّ بعض مراتب الشرك ـ وهو نحو من الضلال كما عرفت ـ ما يجتمع مع بعض مراتب الإيمان ـ وهو سبيل من السبل ـ ومنه يعلم أنّ السبيل قد يجامع الشرك، لكنّ الصراط لا يجامع الضلال كما تقدّم في الخصوصّيّة الأولى.
    ثانياً: إنّ الصراط المستقيم متّحد مع جميع السبل نحواً من الاتّحاد، مع كون السبل متخالفة فيما بينها. فمَثَل الصراط المستقيم بالنسبة إلى سبل الله (كسبيل المؤمنين وسبيل المنيبين وسبيل المتّبعين للنبيّ صلّى الله عليه وآله أو غير ذلك من سُبل الله تعالى) كمَثَل الروح بالنسبة إلى البدن، فكما أنّ للبدن أطواراً في حياته، هو عند كلّ طور غيره عند طور آخر، كالصباوة والطفوليّة والكهولة والشيب والهرم، لكن الروح هي الروح، وهي متّحدة بها والبدن يمكن أن يطرأ عليه أطوار تنافي ما تحبّه الروح وتقتضيه لو خلّيت ونفسها، بخلاف الروح فطرة الله التي فطر الناس عليها، والبدن مع ذلك هو الروح أعني الإنسان، كذلك السبيل إلى الله تعالى هي الصراط المستقيم، لكن ربما اتّصلت بها آفة من خارج أو نقص، كما تقدّم أنّ الإيمان ـ وهو سبيل ـ ربما يجامع الشرك والضلال، لكن لا يجتمع شيء من ذلك مع الصراط المستقيم.
    وهذا المعنى هو المستفاد من بعض الآيات كقوله تعالى: (وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (يس: 61)، وقوله: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً) (الأنعام: 161)، فسمّى العبادة صراطاً مستقيماً، وسمّى الدين صراطاً مستقيماً، وهما مشتركان بين السُّبل جميعاً.

    صفحة 368
    إذن فللسبيل مراتب كثيرة من جهة خلوصه وشوبه وقربه وبُعده، والجميع على الصراط المستقيم، وقد بيّن هذا المعنى في مَثَل ضربه الله للحقّ والباطل في كلامه فقال: (أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ) (الرعد: 17) حيث أشار إلى أنّ القلوب والأفهام في تلقّي المعارف والكمال مختلفة، مع كون الجميع متّكئة منتهية إلى رزق سماويّ واحد.
    ثالثاً: ومن أهمّ النتائج المترتّبة على تعدّد السُّبل الإلهيّة واختلافها، أنّ الهداية تختلف باختلاف السبل التي تضاف إليها، فلكلّ سبيل هداية قبله تختصّ به، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت: 69) إذ فرق بين أن يجاهد العبد في سبيل الله وبين أن يجاهد في الله. فالمجاهد في الأوّل يريد سلامة السبيل ودْفع العوائق عنه، بخلاف المجاهد في الثاني فإنّه إنّما يريد وجه الله، فيمدّه الله سبحانه بالهداية إلى سبيل دون سبيل بحسب استعداده الخاصّ به، وكذا يمدّه الله تعالى بالهداية إلى السبيل بعد السبيل حتّى يختصّه بنفسه جلّت عظمته.

فهرس الكتاب