Rss Feed

  1. البحث الرابع: الهداية بالذات والهداية بالغير
    أشار القرآن إلى أنّ الله جعل الهداية حقّاً على نفسه؛ قال تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى) (الليل: 12)، حيث أفادت أنّ هدى الناس مما قضى سبحانه به وأوجبه على نفسه بمقتضى الحكمة؛ ذلك أنّه خلقهم ليعبدوه كما قال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، فجعل عبادتهم غاية لخلقهم، وجعلها صراطاً مستقيماً إليه كما قال: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (آل عمران: 51)، وقال: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ) (الشورى: 52 ـ 53)، وقضى على نفسه أن يبيّن لهم سبيله ويهديهم إليه، بمعنى إراءة الطريق ـ سواء سلكوها أم تركوها ـ كما قال: (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ) (النحل: 9)، وقال: (وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (الأحزاب: 4)، وقال: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (الإنسان: 3).
    من هنا قد يقال: إنّ الهداية إذا كانت منه تعالى ـ وهو الهادي ـ فكيف يمكن أن نفهم وجه إسناد الهداية إلى غيره أيضاً كما في قوله: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى: 52)، وقوله: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي) (يوسف: 108)، وقوله حكاية عن مؤمن آل فرعون:

    صفحة 360
    (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِي أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ) (غافر: 38)، هذا في الهداية بمعنى إراءة الطريق.
    وكذا الهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب، والمطلوب في المقام الآثار الحسنة التي تترتّب على الاهتداء بهدي الله والتلبّس بالعبادة كالحياة الطيّبة المعجّلة في الدنيا والحياة السعيدة الأبديّة في الآخرة، فمن البيّن أنّه من قبيل الصنع والإيجاد الذي يختصّ به تعالى، فهو مما قضى الله به وأوجبه على نفسه وسجّله بوعده الحقّ، كما في قوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97)، إلاَّ أنّه من جهة أخرى فقد نسب هذه الهداية ـ كما تقدّم ـ إلى غيره أيضاً بمقتضى قوله تعالى: (يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا).
    والجواب: إنّ مقتضى التوحيد الأفعالي وإن كان يثبت أن لا مؤثّر في عالم الكون إلاَّ الله سبحانه، أي أنّه لا يوجد مؤثّر مستقلّ سواه، إلاَّ أنّ ذلك لا ينافي أن تكون هناك علل وسطيّة ـ بمقتضى السببيّة ـ لها التأثير في الأشياء بإذنه ومشيئته تعالى.
    وهذا هو الأسلوب الذي اعتمده القرآن الكريم في كثير من المجالات، حيث ينفي كلّ كمال عن غيره تعالى ويحصره به سبحانه، ثمّ يثبته لغيره بإذنه ومشيئته، فيفيد أنّ الموجودات غيره لا تملك ما تملك من هذه الكمالات بنفسها واستقلالها، وإنّما تملكها بتمليك الله إيّاها؛ ولذا قال عليّ أمير المؤمنين عليه السلام عن الاستطاعة: «تملكها بالله الذي يملكها من دونك. فإن ملّككها كان ذلك من عطائه، وإن سلبكها كان ذلك من بلائه، وهو المالك لما ملّكك والقادر على ما عليه أقدرك» (1)، وهكذا الحال في غير الاستطاعة من الكمالات
    ــــــــــ
    (1) تحف العقول عن آل الرسول، مصدر سابق: ص213.

    صفحة 361
    الوجوديّة، فإنّه تعالى هو الفاعل المستقلّ في مبدئيّته على الإطلاق، والقائم بذاته في الإيجاد، ليس لغيره من الاستقلال ـ الذي هو ملاك العلّية والإيجاد ـ إلاَّ الاستقلال النسبي.

فهرس الكتاب