Rss Feed

  1. الأولى: الهداية ونظام السببية
    كما أنّ السنّة الجارية في التكوين هي سنّة الأسباب وقانون العلّية والمعلوليّة العامّ، والمشيئة الإلهيّة إنّما تتعلّق بالأشياء وتقع على الحوادث على وفقها، فما تمّت فيه العلل والشرائط وارتفعت عن وجوده الموانع، كان هو الذي تتعلّق بتحقّقه المشيئة الإلهيّة ـ وإن كان الله سبحانه له فيه المشيّة مطلقاً إن لم يشأه لم يكن وإن شاء كان ـ كذلك السنّة الجارية في نظام التشريع والهداية هي سنّة الأسباب. فمن استرحم اللهَ رحمه ومن أعرض عن رحمته حرَمه، والهداية بمعنى إراءة الطريق تعمّ الجميع، فمن تعرّض لهذه النفحة الإلهيّة ولم يقطع طريق وصولها إليه بالفسق والكفر والعناد، شملته وأحيته بأطيب الحياة (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)، ومَن اتّبع هواه وعاند الحقّ واستعلى على الله وأخذ يمكر بالله ويستهزئ بآياته، حرمه الله السعادة وأنزل عليه الشقوة وأضلّه على علم وطبع عليه بالكفر فلا ينجو أبداً.
    ولولا جريان المشيّة الإلهيّة على هذه السنّة، بطل نظام الأسباب وقانون العلّية والمعلوليّة وحلّت الإرادة الجزافيّة محلّه ولغت المصالح والحِكَم والغايات، وأدّى فساد هذا النظام إلى فساد نظام التكوين، لأنّ التشريع ينتهي بالأخرة إلى التكوين بوجه.
    وهذا كما أنّ الله سبحانه لو اضطرّ المشركين على الإيمان، وخرج بذلك النوع الإنساني عن منشعب طريقي الإيمان والكفر، وسقط الاختيار الموهوب له، ولازَم بحسب الخلقة الإيمان واستقرّ في أوّل وجوده على أريكة الكمال، وتساوى الجميع في القُرب والكرامة، كان لازم ذلك بطلان نظام الدعوة الدينيّة ولغت التربية والتكميل وارتفع الاختلاف بين الدرجات، وأدّى ذلك

    صفحة 375
    إلى بطلان اختلاف الاستعدادات والأعمال والأحوال والملكات، وانقلب بذلك النظام الإنساني وما يحيط به ويعمل فيه من نظام إلى نظام آخر، لا خبر فيه عن إنسان أو ما يشعر به.
    ببيان آخر: إنّ الهداية وإن كانت منه سبحانه ـ كما عرفنا ـ إلا أنّ ذلك لا يتنافى مع نظام السببية في هذا العالم، بأن يوجِد الحقُّ تعالى سبباً ينكشف به المطلوب ويتحقّق به وصول العبد إلى غايته في سيره. وهذا ما بيّنه سبحانه بقوله: (فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ) (الأنعام: 125) وقوله (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ) (الزمر: 23) وتعدية (تلين) بـ (إلى) لتضمين معنى مثل الميل والاطمئنان، فهو إيجاده تعالى وصفاً في القلب به يقبل ذكر الله ويميل ويطمئنّ إليه.

فهرس الكتاب