مراتب حملة القرآن
قبل الوقوف على بيان مراتب حملة القرآن، ينبغي الإشارة ـ ولو إجمالاً ـ إلى أنّ المعرفة تنقسم إلى حصوليّة وحضوريّة شهوديّة. والحصوليّة تنقسم إلىــــــــــ
(1) تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورّام) للورّام بن أبي فراس المالكي الأشتري، نشر مكتبة الفقيه: ج2 ص236.
(2) تتمّة الحديث السابق.
صفحة 137
ظاهريّة ساذجة وتحقيقيّة برهانيّة، والحضوريّة تنقسم إلى تحقّقية إحاطيّة وغير إحاطيّة. والفرق بين المعرفة التحقيقيّة والتحقّقيّة هي:إنّ المعرفة التحقيقيّة هي اعتماد الأدلّة العقليّة القطعيّة في إثبات حقيقة من حقائق الوجود، وهذا يستلزم إقامه البرهان ضمن الشرائط التي ذكرت لذلك. وهذا الطريق يعتمد العقل في تأسيس وتقرير براهينه، وبذلك تعطي الباحث اتّزاناً معرفيّاً صوريّاً، والمراد من الصوريّة هنا هو كونها لا تعدو دائرة الذهن.
وأمّا المعرفة التحقّقية ـ بغضّ النظر عن كونها إحاطيّة أو غير إحاطيّة ـ فإنّها تسلك بالإنسان طريقاً آخر للوقوف على الحقائق، وهو طريق الكشف والشهود والمعاينة، ونتيجة الشهود ليست صوراً ذهنيّةً وإنّما حقائق وجوديّة خارجيّة.
بعبارة أُخرى: إنّ حصيلة التحقيق البرهاني هي أن يكون الباحث مظهراً لنتيجة ذلك السير العقلي، ولذا فإنّه لا يخرج عن دائرة المفهوم والصورة الذهنيّة. وأمّا حصيلة التحقّق الشهودي فهي أن يكون السالك مظهراً لنتيجة ذلك السير المعنوي القلبي، أي أن يكون السالك مظهراً لما تحقّق به.
ويمكن تقريب هذا الفرق بمثال وجدانيّ في متناول الجميع، وهو الجوع والعطش، فمن عرف ما هو الجوع وكيف يصيب الإنسان وكيف يتخلّص منه دون أن يعيش حالة الجوع، فإنّ معرفته هذه معرفة تحقيقيّة. وأمّا من عاش الجوع بنفسه فإنّ معرفته بالجوع تكون تحقّقيّة حيث تعرّض نفسه للجوع وصار جائعاً، وشتّان بين من عرف الجوع ومن عاشه، ولذا قيل: من وُصف له الشهد ليس كمَن ذاقه.
إذا اتّضحت هذه المقدّمة نقول: تبيّن من مجموع الأبحاث السابقة أنّ للقرآن ظاهراً وباطناً، وأنّ الظاهر يندرج في دائرة المعرفة الحصوليّة، وأنّ الباطن يندرج في دائرة المعرفة الشهوديّة، وهكذا في التفسير فهو حصوليّ والتأويل فهو شهوديّ حضوريّ.
صفحة 138
فإذا ما أردنا أن نعكس مسألة التحقيق (النظر الحصولي البرهاني) والتحقّق (النظر القلبي الشهودي) على الظاهر والباطن والتفسير والتأويل، نجد نتائج هذا الانعكاس المعرفي واضحة.فالظاهر والتفسير وفهم العبارة والإشارة أيضاً، كلّ ذلك يندرج ضمن دائرة التحقيق المعرفي التي تمثِّل أعلى مراتب المعرفة الحصوليّة، وأمّا الباطن والتأويل واللطائف والحقائق فكلّ ذلك يندرج ضمن دائرة التحقّق التي تمثِّل المعرفة الحضوريّة.
فمن رام الظاهر القرآني والمكوث في دائرة التفسير، فعليه بالتحقيق وتصيّد الأدلّة والبراهين المجازة في قراءة النصّ القرآني، ومَن رام الوقوف على ما وراء ذلك وصولاً إلى حقائق القرآن وروحه، فعليه بالتحقّق والحضور.
إنّ التحقيق في النصّ القرآني يعني الوقوف على جميع مقدّمات قراءة هذا النصّ ومقتضياته، فإنّ كلّ قراءة يُراد تقديمها الآن هي متأخّرة بطبيعة الحال عن زمان الصدور بأكثر من أربعة عشر قرناً ـ كما عرفت ـ ولا ريب أنّ ظروف النصّ لها خصوصيّتها ومدخليّتها في قراءة النصّ، كما أنّ معرفة العامّ والخاصّ، والمطلق والمقيّد، والمبين والمجمل، والناسخ والمنسوخ، والأدوات اللغويّة نحواً وصرْفاً وبلاغة، وأسباب النزول، وغير ذلك من القرائن الحاليّة التي كانت تحفّ بالنصّ زمن الصدور، ودور السنّة الشريفة في فهم النصّ القرآني، كلّ ذلك له مدخليّة واضحة وأساسيّة في قراءة هذا النصّ. ولأجل ذلك تبرز عندنا الحاجة الملحّة إلى وجود الوسيط في فهم النصّ القرآني، ونعني بالوسيط هنا خصوص المتخصّص في العمليّة التفسيريّة (1).
ــــــــــ
(1) حول مسألة الحاجة إلى وجود الوسيط في فهم النصّ الديني عموماً، يُرجع إلى كتاب: التفقّه في الدِّين، حوار مع السيّد كمال الحيدري، بقلم: طلال الحسن، دار فراقد، 2004م: ص71 .
صفحة 139
وبهذا ننتهي إلى نتيجة في غاية الأهمّية، وهي أنّ قراءة النصّ القرآني خصوصاً، والنصّ الديني عموماً، بنحو تحقيقيّ لا تتسنّى لأيّ أحد ـ قارئاً كان للقرآن أو تالياً له ـ وإنّما هي وظيفة المتخصّص الحائز على جميع المقدّمات التي أشرنا إلى جملة منها.وأمّا القراءة التحقّقيّة، فإنّ مجالها يتجاوز دائرة اللفظ والمفاهيم والذهن، ليدخل في مجال آخر غيبيّ، وهو دائرة الحقائق الوجوديّة خارجاً، المجرّدة من المادّة وآثارها.
ثمّ إنّ هذه القراءة يمكن فرض مستويات ثلاثة لها هي :
- مشاهدة الحقائق القرآنيّة، فيكون صاحب هذا المستوى قاصداً لها.
- التحقّق بالحقائق القرآنيّة، فيكون واصلاً إلى مقصوده.
- التحقّق بالحقيقة الجامعة للقرآن، فيكون مقصوداً للحقائق القرآنيّة بعد أن كان قاصداً وواصلاً.
أمّا المستوى الأوّل، فإنّه ممكن جدّاً لكلّ من قطع السفر الأوّل من أسفار السلوك العملي الأربعة، وهو السير من الخلق إلى الحقّ، فلا يتسنّى لأحد الوقوف على الحقائق القرآنيّة مشاهدةً إلاّ بعد الخروج من تبعات عالم المادّة، فلم يعد محكوماً لها، بمعنى عدم الالتفات القلبي إلى شيء من ذلك البحر الأُجاج وقصر التوجّه إلى الله تبارك وتعالى (1).
وأمّا المستوى الثاني، وهو التحقّق بالحقائق القرآنيّة ـ لا مجرّد مشاهدتها ـ فإنّها رتبة لا ينالها إلاّ من دخل السفر الثاني وتزوّد منه، وهو السير من الحقّ إلى الحقّ، ودرجة التحقّق هذه تشكيكيّة، أي أنّها ذات مراتب لا عدّ لها ولا حصر،
ــــــــــ
(1) ينظر بحث السفر الأوّل في كتاب: من الخلق إلى الحقّ، من أبحاث السيد كمال الحيدري، بقلم: طلال الحسن، مصدر سابق: ص79 ـ 99.
صفحة 140
لأنّها سير في الكمالات الإلهيّة التي لا نهاية لها، ولكن التحقّق إنّما هو بقدر السائر لا المُسار فيه (أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) (الرعد: 17).إنّه طريق شاقّ طويل، أوّله الخروج من تبعات عالم المادّة وحاكميّته، ولكن لا آخر له البتّة، وهو المصطلح عليه بسفر الولاية ـ عند أهل المعرفة ـ فلا يملك السائر فيه إلاّ أن يغلق دائرة سيره أو تُغلَق هي بالفعل لتحوّل تمام استعداده إلى فعل، فيعود بما تحقّق به ليأخذ موقعه هادياً ومرشداً بقدر ما يسمح له، وهذا هو حال السواد الأعظم من سالكي طريق الولاية الإلهيّة. وإمّا أن يواصل سيره لعدم نفاد استعداده، فيمضي والتأوّه لسان حاله: «آه من قلّة الزاد وطول الطريق وبُعد السفر» (1) فإن حصلت استعدادات أخرى يولّدها عمل العائد، فله العود والكرّة مرّةً أُخرى لسفره الثاني بغية التزوّد مجدّداً بالمعارف الحقّة (2).
وأمّا المستوى الثالث، فذلك نصيب من يرجع إلى الخلق بعد أن انطلق منهم، ولكنّه عود بالحقّ، فيبصر بالحقّ ويسمع بالحقّ وينطق بالحقّ، وبذلك تصطبغ كلّ حركاته وسكناته بالحقّ، وهذه هي مرتبة الولاية المشار إليها في قوله تعالى في الحديث القدسيّ: «وإنّه ليتقرّب إليَّ بالنافلة حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها»(3)(4).
وفي هذا المستوى المعرفي الأعلائي ـ وهو ما يصل إليه ورثة الخاتم صلى الله
ــــــــــ
(1) نهج البلاغة: رقم الحكمة 77 .
(2) ينظر بحث السفر الثاني، من الخلق إلى الحقّ: ص115 ـ 120.
(3) الأصول من الكافي: كتاب الإيمان والكفر، باب من آذى المسلمين واحتقرهم، الحديث 7، ج2 ص352.
(4) ينظر بحث السفر الثالث في «من الخلق إلى الحقّ» : ص131 ـ 143.
صفحة 141
عليه وآله ـ يصبح صاحبه تحقّقاً مقصوداً لتلك الحقائق القرآنيّة الحقّة، ومعنى كونه مقصوداً لها، هو أنّه سوف يسمع ذلك النداء الإلهي الذي نزل على قلب الخاتم صلى الله عليه وآله نازلاً عليه، وعندئذ يحقّ للسامع بالحقّ بعد أن يغشاه جلال الله سبحانه أن يقع بين يدي المنادي مغشيّاً عليه.ومن شواهد هذه الغشية الجلاليّة الحقّة في حضرة الحقّ سبحانه بعد سماع ندائه ما روي عن سيّد الساجدين عليّ بن الحسين عليهما السلام حين سُئل عن حالة لحقته في الصلاة حتّى خرَّ مغشيّاً عليه، فلمّا أفاق قيل له في ذلك، فقال: «ما زلت أُردّد هذه الآية على قلبي حتّى سمعتها من المتكلِّم بها، فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته» (1).
والظاهر أنّ الآية هي قوله تعالى: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) كما رواه الكليني عن الزهري قال: «قال عليّ بن الحسين عليهما السلام: لو مات من بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي. وكان عليه السلام إذا قرأ (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) يكرّرها حتّى كاد أن يموت» (2).