Rss Feed

  1. الطريق للوقوف على مراتب القرآن
    في البدء لابدّ من التمييز بين قارئ القرآن وحامله.
    القرآن بين حامله وقارئه
    لا شكّ أنّ حفظ القرآن وتلاوته من المستحبّات المؤكّدة التي حثَّ عليها الشارع المقدّس، ووعد الحافظ لكتابه والتالي له أجراً عظيماً، ولكن هذين الأمرين المستحبّين لا يحقّقان أغراض نزول القرآن الحقيقيّة، فإنّ أغراضه الحقّة تكمن في وعايته وحمل مضامينه في العقل والقلب، فتنعكس وعايته وحمله له سلوكاً قرآنيّاً إلهيّاً يمتاز به العبد عمّن دونه.
    وأمّا إذا كان حافظ القرآن أو قارئه أو تاليه بعيداً عن مضامينه، متخلّقاً بغير أخلاق القرآن فلا جدوى من حفظه وتلاوته، بل قد يكون ذلك وبالاً وخسراناً، وهذا ما ورد عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله: «كم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه» (1).
    ولذا فالقرآن ليس بالتلاوة فقط، وإنّما بالهداية والوعاية، وهما لا يلغيان فضيلة تلاوته، بل لا يدومان إلاّ بتلاوته. عن النبيّ صلى الله عليه وآله: «إنّ هذه
    ــــــــــ
    (1) بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار: كتاب القرآن، باب ثواب تعلّم القرآن وتعليمه، الحديث 24، ج92 ص185.

    صفحة 135
    القلوب تصدأ كما يصدّ الحديد، قيل: يا رسول الله! فما جلاؤها؟ قال: تلاوة القرآن» (1) فتلاوته رافد يغذّي وعايته والهداية به، لذا كان «لقاح الإيمان تلاوة القرآن» (2).
    ولمّا كانت سنّة المعصوم عليه السلام شارحة ومبيّنة للقرآن، فإنّه لا يبقى مجال لحمل التلاوة على معناها اللغوي ـ وهو القراءة بطريقة وكيفيّة مخصوصة ـ وإنّما المراد به شيء وراء ذلك، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله في ذيل قوله تعالى: (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (المزمّل: 4) قال: «بيّنه تبياناً، ولا تنثره نثر البقل، ولا تهذّه هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه، حرّكوا به القلوب، ولا يكون همّ أحدكم آخر السورة» (3).
    وكذا ما ورد عن عليّ أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: «تالين لأجزاء القرآن يرتّلونها ترتيلاً، يحزّنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً وتطلّعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنّوا أنّها نصب أعينهم. وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في أصول آذانهم...» (4).
    فهذا هو أصل الترتيل، وأمّا مجرّد قراءته وحصر الهمّ بمخارج حروفه، فذلك الذي أقام حروفه وضيّع حدوده. وأمّا التلاوة الحقّة التي جاء ذكرها في قوله تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ
    ــــــــــ
    (1) ميزان الحكمة، للشيخ محمّد الري شهري، نشر وتحقيق دار الحديث، الطبعة الأُولى 1416هـ: الحديث 16498، ج3 ص2524.
    (2) غرر الحكم، عبد الواحد الآمدي، تحقيق السيّد جلال الدِّين الآرموري، جامعة طهران، الطبعة الثالثة: رقم 7633.
    (3) النوادر، قطب الدِّين الراوندي، دار الحديث، الطبعة الأُولى، 1407هـ: ص164.

    (4) نهج البلاغة: الخطبة 193 يصف فيها المتّقين.

    صفحة 136
    يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ) (البقرة: 121) فذلك مقام أرفع قد بيّنه الإمام أبو عبد الله الصادق عليه السلام حيث يذكر لهم أوصافاً تسعة، وذلك بقوله في ذيل الآية المتقدّمة: «يرتّلون آياته، ويتفهّمون معانيه، ويعملون بأحكامه، ويرجون وعده، ويخشون عذابه، ويتمثّلون قصصه، ويعتبرون أمثاله، ويأتون أوامره، ويجتنبون نواهيه» (1).
    ثمّ يردّ عليه السلام على مَن توهّم تلاوته بمجرّد قراءته وحفظه إذ يقول: «ما هو والله بحفظ آياته وسرد حروفه، وتلاوة سوره ودرس أعشاره وأخماسه، حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده، وإنّما هو تدبّر آياته» (2).
    والحاصل أنّ الذين راعوا حدوده ووقفوا عند عجائبه وتفهّموا معانيه، وحرّكوا به القلوب ووقفوا على إشاراته ولطائفه وحقائقه، فأولئك هم حملة القرآن حقّاً، المحفوفون برحمة الله، الملبوسون بنور الله عزّ وجلّ، وهم عرفاء أهل الجنّة وأشراف هذه الأمّة.
    وبذلك نخلص إلى أنّ للقرآن قرّاء وحفظة وحملة، وأنّ القرّاء والحفظة إذا تجرّدوا عن الوعاية والدراية والتدبّر والتخلّق بأخلاق القرآن لم يحوزوا على فضيلته حقّاً، وأنّهما مع الوعاية والدراية.. يكونون قد حازوا على كلّ شيء، فالمناط والمدار يكمن في الوقوف عليه عقلاً وقلباً، والتخلّق به ظاهراً وباطناً.

فهرس الكتاب