Rss Feed

  1. القرآن ومَنْ خوطب به
    - روى الكليني عن محمّد بن سنان عن زيد الشحّام قال: «دخل قتادة بن دعامة (3) على أبي جعفر الباقر عليه السلام فقال: يا قتادة أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال: هكذا يزعمون. فقال أبو جعفر عليه السلام: بلغني أنّك تفسّر القرآن؟
    ــــــــــ
    (1) المحجّة البيضاء في تهذيب الأحياء، للمحقّق الحكيم المتألّه محمّد بن مرتضى الملقّب بالمولى محسن الكاشاني، المتوفّى 1091هـ، صحّحه وعلّق عليه: علي أكبر الغفاري، نشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم، الطبعة الرابعة 1417هـ: ج1 ص352.
    (2) الأصول من الكافي: كتاب فضل القرآن، الحديث 13، ج2 ص602.
    (3) هو من مشاهير محدّثي العامّة ومفسِّريهم.


    صفحة 142
    فقال له قتادة: نعم.
    فقال الباقر عليه السلام ـ بعد حوار واختبار لقتادة ـ : ويحك يا قتادة إن كنت إنّما فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قد أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت. ثمّ قال عليه السلام: ويحك يا قتادة إنّما يعرف القرآن مَن خُوطب به» (1).
    - وكذلك ما جاء عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام في حديث أنّه «قال لأبي حنيفة: أنت فقيه العراق؟ قال: نعم. قال: فبِمَ تفتيهم؟ قال: بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى الله عليه وآله، قال: يا أبا حنيفة! تعرف كتاب الله حقّ معرفته؟ وتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: نعم.
    قال عليه السلام: يا أبا حنيفة! لقد ادّعيت علماً، ويلك ما جعل الله ذلك إلاّ عند أهل الكتاب الذين أُنزل عليهم، ويلك ولا هو إلاّ عند الخاصّ من ذرّية نبيّنا محمّد صلى الله عليه وآله، وما ورّثك الله من كتابه حرفاً» (2).
    من خلال هذه النصوص وما جاء بمضمونها ـ لو قطعنا النظر عن أسانيدها وقصرنا النظر على معانيها ومضمونها ـ نجد أنّهم عليهم السلام يؤكّدون أنّ المعارف القرآنيّة إنّما هي مختصّة بطبقة معيّنة، تتمثّل بمَن خوطبوا به، وبمَن ورثه، فمَن هؤلاء؟ وهل تنحصر المعارف القرآنيّة كاملةً بهم ؟
    في ضوء ما تقدّم اتّضح لنا أنّ هنالك ظاهراً وباطناً، وأنّ هنالك تفسيراً وتأويلاً، وأنّ المعارف القرآنيّة لها مراتب وجوديّة متعدّدة، تمثّل الحقائق الخارجيّة السقف الأعلى للمعارف القرآنيّة، وأنّ نيلها لا يكون إلاّ بالحضور
    ــــــــــ
    (1) الفروع من الكافي: الحديث 485، ج8 ص311 .
    (2) تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة: أبواب صفات القاضي، الباب السادس، باب عدم جواز القضاء والحكم بالرأي، الحديث 33177، ج27 ص47.


    صفحة 143
    والشهود.
    بهذا يمكن أن يُقال: إنّ النتيجة الأُولى المستفادة من هذه النصوص ـ وهي الأقرب إلى الفهم الأوّلي ـ هي أنّ المعرفة الحقّة التامّة بالقرآن، والتي تعني الوقوف على الحقائق الغيبيّة، منحصرة بمن خوطبوا به، فالمعرفة التامّة الشاملة والإحاطة بجميع المراتب غير ممكنة إلاّ لهم عليهم السلام.
    قال الخوئي معلّقاً على هذه النصوص: «إنّ المراد من هذه الروايات وأمثالها أنّ فهم القرآن حقّ فهمه، ومعرفة ظاهره وباطنه وناسخه ومنسوخه، مختصّ بمن خوطب به. والرواية الثانية صريحة في ذلك، فقد كان السؤال فيها عن معرفة كتاب الله حقّ معرفته» إلى أن انتهى إلى القول: «فهم المخصوصون بعلم القرآن على واقعه وحقيقته، وليس لغيرهم في ذلك نصيب» (1).
    ولعلّ في جملة من النصوص ما يؤيّد هذا المعنى، كما في النصّ الوارد عن أبي جعفر الباقر عليه السلام حيث قال: «ما ادّعى أحد أنّه جمع القرآن كلّه كما أُنزل إلاّ كذّاب، وما جمعه وحفظه كما نزّله الله تعالى إلاّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام والأئمّة من بعده عليهم السلام» (2).
    إلاّ أنّ هذه النتيجة يمكن القبول بها شريطة أن يكون التفسير والتأويل بمعنىً واحد، أمّا إذا كان التفسير غير التأويل، فإنّ دائرة الحصر والمنع سوف تتّسع لتشمل التفسير فضلاً عن التأويل، فلا يصحّ بعدها التفسير والتأويل إلاّ لمن خوطب به، لما عرفت من إنكار الإمام عليه السلام على قتادة، حيث قال له أوّلاً: «بلغني أنّك تفسّر القرآن».
    ــــــــــ
    (1) البيان في تفسير القرآن للإمام الأكبر زعيم الحوزة العلمية السيد أبو القاسم الخوئي، دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الرابعة، 1395 هـ ، بيروت: ص268 .
    (2) الأصول من الكافي: كتاب الحجّة، باب أنّه لم يجمع القرآن كلّه إلاّ الأئمّة عليهم السلام، الحديث 1، ج1 ص228 .


    وبما بيّناه سابقاً اتّضح أنّ التفسير والتأويل علمان مستقلاّن رغم أنّ متعلّقهما هو القرآن الكريم، ولكن متعلّق التفسير هو ظاهر القرآن وألفاظه، ومتعلّق التأويل هو باطن القرآن وحقائقه الوجوديّة.
    فإذا ما ثبت إنكار الإمام عليه السلام على قتادة أو غيره لمجرّد التفسير، فمن باب أولى يثبت إنكار التأويل أيضاً، وذلك لأنّ تفسير القرآن وإن كان مندرجاً ضمن دائرة العلوم الحصوليّة إلاّ أنّه ذو صلة وثيقة بالمعرفة الحضوريّة ـ كما ستعرف ـ وهذه هي النتيجة الثانية.
    وأمّا النتيجة الثالثة ـ والأخيرة ـ التي نريد الانتهاء عندها والالتزام بها، فهي أنّ هذه النصوص تشير إلى مجالين معرفيّين هما:
    - الظاهر الحصولي المندرج ضمن دائرة التفسير.
    - الباطن الحضوري المندرج ضمن دائرة التأويل.
    وقبل بيان ذلك لابدّ أن نعرف أنّ قوله عليه السلام: «مَن خوطب به»
    لا يعني بالضرورة شخص النبيّ صلى الله عليه وآله أصالةً، وعترته الطاهرة
    عليهم السلام وراثةً، فإنّ هذه الوجودات إنّما تمثِّل المرتبة الأعلائيّة، ممّن خوطبوا بالقرآن الكريم، ونكتة كونهم مخاطبين بالقرآن هو حيازتهم ملاك المخاطبة من قبل الله تعالى ـ سواء كانت بواسطة أو بغير واسطة ـ. وهذا الملاك هو انفتاح قلوبهم الشريفة على عالم الغيب فوقفوا على الحقائق والبواطن فضلاً عن الرقائق والظواهر.
    إذا اتّضح ذلك فاعلم أنّ المجال المعرفي الثاني وهو الانفتاح على الغيب، يوفّر للداخل فيه فرصة المخاطبة بالقرآن الكريم.
    بعبارة أُخرى: إنّ من ملك الاستعداد وأهليّة الوقوف على الحقائق الغيبيّة بعد أن صار قلبه صقيلاً ومزكّى من الشوب، سوف يكون مخاطباً بالقرآن. هذا ما يتعلّق بالمجال الثاني.

    صفحة 145
    وأمّا المجال الأوّل ـ أعني الظاهر الحصولي ـ فإنّه بنفسه لا يتوقّف على الانفتاح على عالم الغيب، ولكن الاستقلال به بعيداً عمّن خوطب بالقرآن أوّلاً وأُنزل على قلبه صلى الله عليه وآله، سوف يجعل صاحبه ـ الذي قد يسمّى مفسّراً وهو ليس كذلك، وإنّما هو عامل بالرأي ـ بعيداً عن دائرة المخاطبة بالقرآن ـ ولو على هذا المستوى ـ .
    فمن فسّر القرآن لا عن الطريق والمنهج الذي رسمه القرآن، بأن رجع إلى أبواب ما أنزل الله بها من سلطان: (إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى) (النجم: 23) أو باتّخاذه نفسه باباً ـ لذا قال عليه السلام في النصّ السابق: «إن كنت إنّما فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قد أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت» ـ إذا كان كذلك فقد وقع في التفسير في الرأي، لأنّه ترك ما جاء به ربّه من الهدى وراءه ظهرياً واتّخذ الظنّ واتّباع الهوى دليلاً.
    ولا ريب أنّ هؤلاء غير مخاطبين بالقرآن، فيكون تفسيرهم ـ وإن أصاب الحقّ أحياناً ـ ضلالاً واختلالاً، كما عرفت سابقاً: «إنّ من تكلّم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» فإنّ الحكم بالخطأ مع فرض الإصابة ليس إلاّ لكونه لم يأت البيوت من أبوابها، كما قال تعالى: (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (البقرة: 189).
    وأمّا من فسّر القرآن ضمن هذا المجال المعرفي أيضاً ولكن بالرجوع إلى من جعلهم الله تعالى أئمّة يهدون بأمره، فصاروا علماً ومرجعاً ومناراً ومداراً يدور معهم الحقّ حيث داروا، فذلك منجى له وحصن، ويجعله مخاطباً بالقرآن بواسطة ذلك المدار الحقّ.

فهرس الكتاب