Rss Feed

  1. انحصار الاستعانة بالله
    هنا تساؤل مؤدّاه: كيف حصرت الآية الاستعانة به تعالى مع أنّ الإنسان يستعين في حياته الاعتياديّة بالآخرين من الناس والموجودات الأخرى، وبدون ذلك لا يمكن أن تسير حياته الاعتياديّة. ويؤكّد هذا الإشكال أنّ الاستعانة هنا جاءت مقارنة للعبادة في قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) والعبادة ـ كما عرفنا ـ مختصّة به تعالى، وأمّا الاستعانة بمعنى «طلب العون» فيمكن أن تصحّ شرعاً حتّى من غير الله تعالى، إذ يستعين الإنسان في حياته بمختلف الوسائل.
    وهذا هو المعلوم بالضرورة من سيرة النبيّ صلّى الله عليه وآله وأصحابه والأئمّة والمسلمين، أنّهم كانوا يستعينون في غالب أمورهم المباحة بالآلات والدابّة والخادم والزوجة والصاحب والرسل والأُجراء وغيرهم، وكذلك ما في قوله تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (البقرة: 45).
    وفي قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (النساء: 64).
    فقد لامَهم الله على عدم مجيئهم للاستعانة على المغفرة، باستغفار الرسول، وهذا يكفي في الحجّة والدلالة على أنّ الإعانة ليست بجميع أقسامها مُنحصرة بالله، وعلى أنّه لا يلزمنا أن نُقصر استعانتنا بقول مطلق على الله تعالى.
    والحاصل أنّ الآية مورد البحث حصرت الاستعانة بالله تعالى وأمرت أن لا نستعين بغيره أبداً، لكن آيات أُخرى أمرت بالتعاون، حيث قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة: 2) فكيف نوفّق بينهما؟

    صفحة 324
    وقد أُجيب عن ذلك بوجوه عديدة:
    منها: أنّ الاستعانة على أنحاء:
    - فتارةً تكون لسدّ باب من أبواب عدم الشيء، فيتوسّل الإنسان بسبب من أسبابه لتحقيقه، وهذا هو ما يتمّ في حياة الإنسان الاعتياديّة عندما يستعين بمختلف الوسائل والموجودات ليتوسّل إلى تحقيق وجود الشيء، فيتمكّن بذلك من بعض أسبابه التي هي في الحقيقة ترفع وتسدّ بعض أبواب انعدامه.
    - وتارةً أخرى يُراد بالاستعانة، الاستعانة بكلّ الأمور والأسباب التي تدخل في علّة وجود الشيء بحيث يكون الأمر سدّاً لجميع أبواب العدم، فيتحقّق وجود الشيء لتحقّق جميع أجزاء وأسباب وجوده، ويعبّر عن هذا بـ «التوفيق». وهذا الصنف من الاستعانة هو المنحصر به تبارك وتعالى، لعجز غيره عن التأثير بكلّ الأمور والأسباب، غيبيّةً كانت أو غير غيبيّة، ويكون المقصود حينئذ من قوله: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ): وإيّاك نطلب التوفيق.
    ومنها: أنّ استعانات البشر قولاً وعملاً على نحوين:
    - النحو الأوّل: هو الاستعانة بالوسائل المجعولة من الله لنيل المقصود التي هي وما فيها من التسبيب من جعْل الله وخلقه.
    - النحو الثاني: الاستعانة بالإله بما هو إله مُعين وقدرته الذاتيّة المطلقة الفائقة؛ ولا ريب في أنّ النحو الثاني من الاستعانة هو المتيقّن في قصره على الله، لأنّ الاستعانة بهذا النحو إذا كانت بغير الله، كانت تأليهاً لغير الله وإشراكاً بالله.
    وممّا ذكرنا من الآية والسيرة واقتران (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) في سياق توحيد الله وتمجيده بالمجد الإلهي، تقوم الحجّة وتتّضح الدلالة على أنّ هذا النحو من الاستعانة هو المقصود دون النحو الأوّل.
    ومنها: أنّه لابدّ من التمييز بين نوعين من الأسباب والوسائط:

    صفحة 325
    - فإنّه تارةً يُتوسّل ويستعان بها باعتبار أنّها من دون الله تعالى، وأنّها مستقلّة في التأثير، كما تعتقد بعض الاتّجاهات التفويضيّة، فلا ريب في أنّ ذلك ينافي التوحيد الأفعالي وأنّه لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله، فيكون منافياً للحصر المستفاد من قوله: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) بلا فرق بين أن يكون ذلك في عظائم الأمور أو صغائرها، وبين أن يكون في العلّة التامّة أو الناقصة.
    في عدّة الداعي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله قال: «قال الله: ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلاّ قطعت أسباب السماوات وأسباب الأرض من دونه» (1).
    - وأخرى يُتوسّل ويستعان بهذه الأسباب لا باعتبار أنّها وسائط مستقلّة ومؤثّرة من دون الله تعالى، بل بما هي أسباب وجوديّة جعلها الله تعالى وسائل متوسّطة بين الأشياء والنتائج المترتّبة عليها؛ قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) (الفتح: 4)، وسياق الآية يشهد أنّ المراد بجنود السماوات والأرض الأسباب الموجودة في العالم ممّا يُرى من الخلق ولا يرى، فهي وسائط متخلّلة بينه وبين ما يريده من شيء تطيعه ولا تعصيه.
    ومن الواضح أنّ الاستعانة بهذه الأسباب المجعولة ليس منافياً لحصر الاستعانة به تعالى فقط، بل هي إطاعة له تعالى في ما أمر تكويناً لا تشريعاً، وهذا ما أكّدته الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: «أبى الله أن يُجري الأشياء إلاّ بأسباب، فجعل لكلّ شيء سبباً، وجعل لكلّ سبب شرحاً، وجعل لكلّ شرح علماً، وجعل لكلّ علم باباً ناطقاً، عرفه من عرفه وجهله من جهله...» (2) أي: جرت سنّة
    ــــــــــ
    (1) بحار الأنوار: باب التوكل والتفويض والرضا والتسليم، الحديث 41، ج68، ص143.
    (2) أصول الكافي: كتاب الحجّة، باب معرفة الإمام والردّ إليه، الحديث 7، ج1 ص183.


    صفحة 326
    الله سبحانه على وفق قانون الحكمة والمصلحة أن يوجد الأشياء بالأسباب، كإيجاد زيد من الآباء والموادّ والعناصر وإن كان قادراً على إيجاده من كتم العدم دفعة بدون الأسباب.
    لكن مع هذا فإنّ للإنسان شعوراً باطنيّاً فطريّاً أنّ كلّ ما يتوجّه إليه من الأسباب والوسائط التي يستعين بها في إنجاز حوائجه، يمكن أن يتخلّف عنه أثره، وأنّ هناك سبباً قاهراً لا يتخلّف عنه فعله، وهو المبدأ الذي يبتدئ عنه كلّ أمر والركن الذي يعتمد عليه في تحقّق كلّ حاجة ووجودها، غير هذه الأسباب الظاهريّة، ولازم ذلك أن لا يركن الركون التامّ إلى شيء من هذه الأسباب والوسائط بحيث ينقطع عن السبب الحقيقي ويعتصم بذلك السبب الظاهري.
    ولعلّ هذا هو نكتة حصر الاستعانة به تعالى، فإنّ هذه الوسائط والوسائل وإن كانت مجعولة من قبله تعالى للوصول إلى تحقيق النتائج المترتّبة عليها، إلاّ أنّها لا تعمل ولا تؤثّر إلاّ بإذنه تعالى، لأنّه الخالق المالك لها، لذا قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أفضل ما طلب به العباد حوائجهم» (1).
    فتحصّل أنّ الحصر في قوله: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) كالحصر في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) لأنّ الغنيّ المطلق من كلّ جهة لابدّ وأن تنحصر الاستعانة به، وأنّ الاستعانة بما سواه إن رجعت إليه تكون الاستعانة به، وإلاّ تكون شركاً من هذه الجهة. وبهذا يتبيّن أنّ لا منافاة بين التوحيد الأفعالي وبين الأخذ بالأسباب وإقامة سنن الله تعالى فيها، بل الكمال والأدب في الجمع بينهما. وهي عبارة أخرى عن الاعتقاد بـ «لا حول ولا قوّة إلاّ بالله» والعمل بمقتضاه في جميع الأحوال.
    ــــــــــ
    (1) تفسير نور الثقلين، مصدر سابق: ج1 ص20.

فهرس الكتاب