2: مزيّة أصحاب الصراط المستقيم أنهم قد بلغوا أعلى مراتب العلم والمعرفة
لتوضيح هذه الحقيقة نقول: إذا تدبّرنا في قوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًصفحة 365
مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) ثمّ قال: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) (النساء: 65 ـ 66)، ثمّ أردف ذلك بقوله: (وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً) (النساء: 69) لوجدنا أنّ هناك طبقة من المؤمنين وإن وصفوا بالثبات التامّ على العبوديّة، إلاّ أنّهم مع ذلك جعلوا تبعاً لأولئك المنعم عليهم وفي صفّ دون صفّهم؛ لمكان قوله: (مَعَ) وقوله: (وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً) ولم يقل «فأولئك من الذين».فإذا كان هؤلاء الملحقون بالمنعم عليهم هذا حالهم في الإيمان والإطاعة، فمن الواضح سيكون نفس المنعم عليهم ـ وهم الأنبياء والصدِّيقون والشهداء والصالحون ـ الذين هم أصحاب الصراط المستقيم، أعلى قدراً وأرفع درجةً ومنزلة من هؤلاء الذين أُلحقوا بهم، وهم المؤمنون الذين خلصوا قلوبهم وأعمالهم من الشرك والظلم، لكن كلّ بحسبه. وعليه فالتدبّر في هذه الآيات يوجب القطع بأنّ هؤلاء المؤمنين ـ وشأنهم هذا الشأن ـ فيهم بقيّة بعد لو تمّت فيهم كانوا من الذين أنعم الله عليهم، وارتقوا من درجة المصاحبة معهم إلى درجة الدخول فيهم.
نعم، يبقى الكلام في المزيّة التي بها بلغ أصحاب الصراط المستقيم هذه الدرجة دون غيرهم. والجواب ـ لعلّه ـ قائم على أساس أنّ لهم من العلم بمقام ربّهم ما ليس لغيرهم، إذ قد يكون العمل التامّ موجوداً في بعض الدرجات الأخرى التي دون درجتهم، فلا يبقى لمزيّتهم إلاّ العلم، وهذا ما جاء في قوله تعالى: (يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (المجادلة: 11)، وكذا قوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (فاطر: 10)، فالذي يصعد إليه هو الكلم الطيّب، وهو الاعتقاد والعلم، وأمّا العمل الصالح فشأنه رفع الكلم الطيّب، والإمداد دون الصعود
صفحة 366
إليه.أمّا هو حقيقة هذا العلم، وأنّه أيُنال بالعقل والفكر، أم هو طورٌ وراء طور الإدراك العقلي، فسيأتي بيانه في ذيل قوله تعالى: (أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) (الرعد: 17)، وقوله: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (الزخرف: 3 ـ 4).