Rss Feed

  1. (17) المفردة الثانية:«الغضب» لغة واستعمالاً
    قال ابن فارس: «غضب، أصل صحيح يدلّ على شدّة وقوّة، يقال: إنّ الغضبة: الصخرة الصلبة. قالوا: منه اشتقّ الغضب، لأنّه اشتداد السخط، يقال أغضب يغضب غضباً، وهو غضبان وغضوب، ويقال أغضبت لفلان إذا كان حيّاً، وغضبت به إذا كان ميتاً»(1).
    ويمكن أن يقال إنّ هذه المادة تفيد التشدّد في قبال شيء آخر، ومن مصاديقه: تشدّد وتصلّب في الصخرة في مقابل من يستعملها، والغضب في الإنسان كيفية تعرض للنفس يتبعها حركة الروح وثورانها فتطلب الانتقام. إلاّ أنّه قد يقال: إنّ إرادة الانتقام ليست من لوازم ماهية الغضب بحيث لا
    ــــــــــ
    (1) معجم مقاييس اللغة: مادة «غضب»، ج4، ص428.

    صفحة 396
    تنفكّ عنه، ولكنها قد تكون من آثاره، ببيان أنّ الغضب هو كيفية للنفس تعرض من حصول ما لا يلائمها، فتترتّب عليه كراهية الفعل المغضوب منه وكراهية فاعله.
    ويلازمه الإعراض عن المغضوب عليه ومعاملته بالعنف وبقطع الإحسان وبالأذى، وقد يفضي ذلك إلى طلب الانتقام منه، فيختلف الحدّ الذي يثور عنده الغضب في النفس باختلاف مراتب احتمال النفوس للمنافرات، واختلاف العادات واعتبار أسبابه.
    ثم إنّ الغضب قد يكون حقّاً وقد يكون باطلاً، أمّا الأوّل فهو غضب ممدوح وحقّ؛ قال تعالى: (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي) (الأعراف: 150) وقال: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) (الأنبياء: 87) وقال: (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) الشورى: 36 ـ 37).
    وعلى أيّ حال، فالغضب الممدوح: ما يكون على حقّ وفي حقّ ومستمرّاً ما دام حقّاً، فيدور مدار الحقّ.
    وأمّا الثاني: فهو خروج للنفس عن الاعتدال وحركتها نحو الحدّة والشدّة والاشتغال. ويقابله الحلم، وهو التعقّل والسكون. ولعلّ هذا هو المشار إليه في كلام لأبي جعفر الباقر عليه السلام قال: «إنّ هذا الغضب جمرة من الشيطان، توقد في قلب ابن آدم، وإنّ أحدكم إذا غضب احمرّت عيناه وانتفخت أوداجه ودخل الشيطان فيه ...» (1).
    أمّا الغضب من الله تعالى، فهو أيضاً شدّة وقوّة بمراتبها في قبال مظالم العباد ومساوئ الأخلاق والمعاصي؛ قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ
    ــــــــــ
    (1) الأصول من الكافي: كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، الحديث12، ج2، ص304.


    صفحة 397
    سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ) (الأعراف: 152) وقال: (وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ) (النحل: 106) إلّا أنّه لما كان يستحيل إسناد الغضب إليه بالمعنى المتعارف عندنا؛ للأدلّة القطعية الدالّة على تنزيه الله تعالى عن أي تغيّر وتحوّل، إذن لابدّ من أن يكون المراد منه لازم المعنى، أعني العقاب ـ دنيوياً كان أو أخروياً أو هما معاً ـ وهذا ما أُشير إليه في كلام أبي عبدالله الصادق عليه السلام قال: «وأمّا الغضب فهو منّا إذا غضبنا تغيّرت طباعنا وترتعد ـ أحياناً ـ مفاصلنا وحالت ألواننا، ثم نجيء من بعد ذلك بالعقوبات، فسمّي غضباً، فهذا كلام الناس المعروف، والغضب شيئان؛ أحدهما: ما يحدث في القلب، والآخر: ما يحدث منّا بعد ذلك. أما المعنى الذي في القلب فهو منفيّ عن الله جلّ جلاله، وكذلك رضاه وسخطه ورحمته على هذه الصفة جلّ وعزّ» (1).

فهرس الكتاب