Rss Feed

  1. صفحة 352
    النوع الأول: الهداية التكوينيّة العامّة
    هي التي تتعلّق بالأمور التكوينيّة، كهدايته كلّ نوع من أنواع المخلوقات إلى كماله الذي خلق لأجله وإلى أفعاله التي كتبت له، وهداية كلّ شخص من أشخاص الخليقة إلى الأمر المقدّر له والأجل المضروب لوجوده؛ قال تعالى: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طه: 50)، وقد أطلق الهداية من حيث المهديّ والمهديّ إليه، ولم يسبق في الكلام إلاّ الشيء الذي أُعطي خلقه، فالظاهر أنّ المراد هداية كلّ شيء ـ المذكور في الآية ـ إلى مطلوبه، ومطلوبه هو الغاية التي يرتبط بها وجوده وينتهي إليها، والمطلوب هو مطلوبه من جهة خلْقه الذي أعطيه، ومعنى هدايته له إليها تسييره نحوها، كلّ ذلك بمناسبة البعض للبعض.
    فيؤول المعنى إلى إلقائه الرابطة بين كلّ شيء بما جُهّز به في وجوده من القوى والآلات وبين آثاره التي تنتهي به إلى غاية وجوده. فالجنين من الإنسان مثلاً وهو نطفة مصوّرة بصورته، مجهّز في نفسه بقوى وأعضاء تناسب من الأفعال والآثار ما ينتهي به إلى الإنسان الكامل في نفسه وبدنه، فقد أعطيت النطفة الإنسانيّة بما لها من الاستعداد خلْقها الذي يخصّها وهو الوجود الخاصّ بالإنسان، ثمّ هُديت وسُيّرت بما جهّزت به من القوى والأعضاء نحو مطلوبها، وهو غاية الوجود الإنساني والكمال الأخير الذي يختصّ به هذا النوع.
    من هنا يظهر معنى عطف قوله (هَدَى) على قوله (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ ) بـ(ثُمَّ )، وأنّ المراد التأخّر الرتبي، فإنّ سير الشيء وحركته بعد وجوده رتبة، وهذا التأخّر في الموجودات الجسمانيّة تدريجيّ زمانيّ بنحو.
    وهذه الهداية لا مقابل لها كالرحمة العامّة التي لا مقابل لها، وبهذا يظهر أنّ هذه الهداية غير الهداية الخاصّة التي تقابل الإضلال، فإنّ الله سبحانه نفاها

    صفحة 353
    وأثبت مكانها الضلال في طوائف، حيث قال: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الجمعة: 5)، وقال: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (الصفّ: 5) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، والهداية العامّة لا تنفى عن شيء من خلقه.
    وكذا يظهر أيضاً أنّ هذه الهداية غير الهداية العامّة الموجودة لكلّ إنسان مؤمناً كان أو كافراً، كما في قوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (الدهر: 3)، وقوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) (فصّلت: 17) فإنّ ما في هاتين الآيتين ونظائرهما من الهداية لا يعمّ غير أرباب الشعور والعقل، وقد عرفت أنّ ما في قوله: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طه: 50) وقوله: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (الأعلى: 2 ـ 3) عامّ من حيث المورد والغاية جميعاً.
    وكيفما كان فهذا النوع من الهداية يشمل ويعمّ كلّ شيء من ذوي الشعور والعقل وغيرهم، وهي هدايته كلّ شيء إلى كمال وجوده وإيصاله إلى غاية خلقته، وهي التي بها نزوع كلّ شيء إلى ما يقتضيه قوام ذاته من نشوء واستكمال وأفعال وحركات وغير ذلك. والحاصل أنّ كلامه تعالى يدلّ على أنّ الأشياء إنّما تنساق إلى غاياتها وآجالها بهداية عامّة إلهيّة لا يشذّ عنها شاذّ. وهذه هي بمعنى الإيصال إلى المطلوب لا إراءة الطريق.

فهرس الكتاب