السادسة: بحث عرفاني في ثمرة العبوديّة لله تعالى
من أهم النتائج المترتّبة في المقام: أنّ العبوديّة المحضة لله تعالى تعني في وجهها الآخر الحريّة المطلقة عمّن سواه، وهذا المعنى يُعطي بُعداً ووجهاً آخر لمفهوم الحريّة الحقّة، وهي التخلّص المطلق من سلطة الأغيار والتبعيّة لهم مادامت تلك التبعيّة والخضوع لسلطة الغير لا تعمّق عبوديّتنا لله تعالى.ولازم ذلك أنّ العبوديّة المحضة لله تبارك وتعالى تعني تبعيّة إرادتنا لإرادة الله سبحانه، وبعبارة أخرى: أن تكون إرادتنا مرآة تعكس إرادته سبحانه أو أنّها صدىً فعليّ لإرادته، وبهذه الإرادة المنعتقة من الأغيار تتحطّم الإرادات الأُخرى المتحكّمة ـ عادةً ـ باتّجاهات القلب وتشويه القبلة القلبيّة الحقّة.
هنا ذكر أهل المعرفة أنّ العبوديّة هي التي توصل السالك إلى مقام الفناء في الله والبقاء به، وهذا هو مقام الولاية ـ الذي هو ابتداء السفر الثاني من الأسفار العمليّة ـ قال الآملي: «والولاية هي قيام العبد بالحقّ عند الفناء عن نفسه، وذلك بتولّي الحقّ إيّاه حتّى يبلّغه غاية القُرب والتمكين» (1).
وليس المراد من الفناء ـ في اصطلاح القوم ـ هو انعدام عين العبد وغياب أثره ـ كما يظنّ البعض ـ وإنّما المراد هو تبديل الصفات البشريّة بالصفات الإلهيّة، فكلّما ارتفعت صفة من صفات العبد السالك قامت صفة إلهيّة مقامها، فعند ذلك تكون جميع حركات العبد وسكناته وأفعاله وأقواله وقيامه وقعوده ونطقه وصمته، وكلّ ما يمتّ إليه بصلة صدىً حقيقيّاً لإرادة الله
ــــــــــ
(1) جامع الأسرار ومنبع الأنوار، للسيّد حيدر الآملي، الطبعة الثانية: ص379.
صفحة 342
تعالى ومشيئته، فيكون في زمرة من قال عنهم تعالى: (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (الأنبياء: 27) فيكون مثله مثل أعضاء الإنسان للإنسان نفسه، فلا إرادة لها البتّة مقابل إرادة الإنسان نفسه، فليس لها إلاّ أن تكون حركاتها صدىً يحكي إرادة النفس، وهذه هي العبوديّة المحضة.وهذا نصّ ما ورد في مصادر الفريقين بإسناد مستفيض عن رسول الله صلّى الله عليه وآله.
- في الأصول من الكافي عن حمّاد بن بشير قال: »سمعت أبا عبد الله الصادق عليه السلام يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: وإنّه ليتقرّب إليَّ بالنافلة حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها...» (1).
- وكذا ما ورد في البخاري عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها» (2).
وهذا ما أكّده الأعلام في كلماتهم، من أنّ الفناء ليس بزوال عين العبد واتّحاده مع الحقّ، وإنّما هو ـ مع بقاء عينه وتعيّنه الشخصي ـ يزول عنه الأوصاف البشريّة ويستبدل عنها بأوصاف إلهيّة.
قال القيصري: «وليس المراد بالفناء هنا انعدام عين العبد مطلقاً، بل المراد منه فناء الجهة البشريّة في الجهة الربّانيّة، إذ لكلّ عبد جهة من الحضرة الإلهيّة
ــــــــــ
(1) الأصول من الكافي: كتاب الإيمان والكفر، باب من آذى المسلمين واحتقرهم، الحديث 7، ج2 ص352.
(2) صحيح البخاري: كتاب الرقاق، باب التواضع 38، الحديث 6502.
صفحة 343
هي المشار إليها بقوله: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) (البقرة: 148) وذلك الاتّصاف لا يحصل إلاّبالتوجّه التامّ إلى جناب الحقّ المطلق سبحانه، إذ به تقوى جهة حقّيته فتغلب جهة خلقيّته إلى أن تقهرها وتفنيها بالأصالة، كالقطعة من الفحم المجاورة للنار، فإنّها بسبب المجاورة والاستعداد لقبول النارية والقابليّة المختفية فيها، تشتعل قليلاً قليلاً إلى أن تصير ناراً، فيحصل منها ما يحصل من النار، من الإحراق والإنضاج والإضاءة وغيرها، وقبل الاشتعال كانت مظلمة كدرة باردة.وذلك التوجّه لا يمكن إلاّ بالمحبّة الذاتيّة الكامنة في العبد، وظهورها لا يكون إلاّ بالاجتناب عمّا يضادّها ويناقضها، وهو التقوى عمّا عداها. فالمحبّة هي المركب والزاد والتقوى. وهذا الفناء موجب لأن يتعيّن العبد بتعيّنات حقّانيّة إلهيّة وصفات ربّانيّة مرّة أخرى، وهو البقاء بالحقّ، فلا يرتفع التعيّن منه مطلقاً.
وهذا المقام دائرته أتمّ وأكبر من دائرة النبوّة، لذلك انختمت النبوّة، والولاية دائمة، وجعل الوليّ اسماً من أسماء الله تعالى دون النبيّ. ولمّا كانت الولاية أكبر حيطة من النبوّة وباطناً لها، شملت الأنبياء والأولياء» (1).
وقال صدر المتألّهين: «لا يمكن للمعلولات مشاهدة ذاته إلاّ من وراء حجاب أو حجب حتّى المعلول الأوّل، فهو أيضاً لا يشاهد ذاته إلاّ بواسطة عين وجوده ومشاهدة نفس ذاته، فيكون شهود الحقّ الأوّل من جهة شهود ذاته، وبحسب وعائه الوجودي لا بحسب ما هو المشهود، وهذا لا ينافي الفناء الذي ادّعوه، فإنّه إنّما يحصل بترك الالتفات إلى الذات والإقبال بكلّية الذات إلى الحقّ.
ــــــــــ
(1) شرح فصوص الحكم، القيصري: ج1 ص168.
صفحة 344
فلا يزال العالِم في حجاب تعيّنه وإنيّته عن إدراك الحقّ، لا يرتفع ذلك الحجاب عنه، بحيث لم يصر مانعاً عن الشهود ولم يبق له حكم، وإن أمكن أن يرتفع عنه تعيّنه عن نظر شهوده، لكن يكون حكمه باقياً» (1).وإذا بلغ السالك مقام الولاية الإلهيّة ـ التي لا تحصل إلاّ بعد الفناء، كما عرفت ـ فإنّه عند ذلك يكون قلبه الطاهر وعاءً لإرادة الله سبحانه، وهذا ما نصّت عليه كلمة الإمام الحجّة بن الحسن عجّل الله تعالى فرجه الشريف حيث قال: «... بل قلوبنا أوعية لمشيئة الله، فإذا شاء شئنا، والله يقول: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)» (2).
ــــــــــ
(1) الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة: ج1 ص115.
(2) بحار الأنوار: كتاب الإمامة، باب نفي الغلوّ في النبيّ والأئمّة، الحديث 16، ج25 ص237.