بعض الآثار المترتّبة على قراءة سورة الحمد
تحدّثت مجموعة من الروايات عن الآثار المترتّبة على تلاوة هذه السورة مؤكّدة جميعها أنّها «شفاءٌ من كلّ داء».- عن إسماعيل بن أبان يرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وآله، قال: «قال رسول
ــــــــــ
(1) الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق : ج2 ص337.
(2) تفسير العيّاشي، مصدر سابق: ج1 ص101، الدرّ المنثور، مصدر سابق: ج1 ص16.
(3) الدرّ المنثور: ج1 ص11.
صفحة 180
الله صلى الله عليه وآله لجابر بن عبدالله: يا جابر ألا أعلّمك أفضل سورة أنزلها الله في كتابه؟ قال: فقال جابر: بلى بأبي أنت وأُمّي يارسول الله علّمنيها. قال: فعلّمه (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أمّ الكتاب.قال: ثمّ قال له: يا جابر ألا أخبرك عنها؟ قال: بلى بأبي أنت وأمّي فأخبرني. قال: هي شفاءٌ من كلّ داء إلاّ السام. يعني الموت» (1).
- وعن سلمة بن محرز، قال: سمعت أبا جعفر الباقر عليه السلام يقول: «من لم يبرئه الحمد لم يبرئه شيء» (2).
- وأخرج الدارمي والبيهقي في شعب الإيمان بسند رجاله ثقات، عن عبد الملك بن عمير قال: قال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلّم: «فاتحة الكتاب شفاء من كلّ داء» (3).
- وأخرج ابن قانع في معجم الصحابة عن رجاء الغنوي قال: «قال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلّم: استشفوا بما حمد الله به نفسه قبل أن يحمده خلقه، وبما مدح الله به نفسه. قلنا: وما ذاك يا نبيّ الله؟ قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فمن لم يشفه القرآن فلا شفاه الله» (4).
وبإزاء هذه الروايات التي أطلقت الشفاء ولم تخصّه بالبُعد المادّي والجسماني، هناك روايات أخرى وردت في خصوص الشفاء من الأمراض البدنيّة:
- عن معاوية بن عمّار عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «لو قرئت الحمد على ميّت سبعين مرّة ثمّ ردّ الله فيه الروح ما كان عجباً» (5).
ــــــــــ
(1) تفسير العيّاشي، مصدر سابق: ج1 ص101.
(2) الأصول من الكافي، مصدر سابق: ج2 ص626، باب فضل القرآن، ح22.
(3) الدرّ المنثور، مصدر سابق: ج1 ص15.
(4) المصدر نفسه: ج1 ص17.
(5) الأصول من الكافي: ج2 ص623، باب فضل القرآن، ح16.
صفحة 181
- وعنه أيضاً أنّه قال: «من نالته علّة فليقرأ الحمد في جيبه سبع مرّات، فإن ذهبت وإلاّ فليقرأها سبعين مرّة وأنا الضامن له العافية» (1).- وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري: «فاتحة الكتاب شفاء من السمّ» (2).
- وأخرج البخاري من حديثه أيضاً: «كنّا في مسير لنا فنزلنا، فجاءت جارية فقالت: إنّ سيّد الحيّ سليم (أي ملدوغ) فهل معكم راقٍ، فقام معها رجل فرقاه بأمّ القرآن فبرئ، فذكر للنبيّ صلى الله عليه (وآله) وسلّم فقال: وما كان يدريه أنّها رُقية» (3).
توضيح المراد من هذه الروايات: أنّ القرآن الكريم وصف نفسه في سورة الإسراء بأنّه شفاء؛ قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الإسراء: 82)، ولما تقدّم أنّ فاتحة الكتاب هي القرآن بصورة موجزة، لذا أفردت وجُعلت بإزائه، إذن فهي أيضاً شفاء للإنسان، من هنا سُمّيت بالشفاء والشافية والرقية.
والتدبّر في المعارف القرآنية ينتهي بنا إلى أنّ للقلوب أحوالاً، نسبة القرآن إليها نسبة الدواء الشافي إلى المرض، حيث ذُكر أنّ الدِّين الحقّ فطريّ للإنسان، فكما أنّ للبنية الإنسانيّة التي سُوّيت على الخلقة الأصليّة قبل أن يلحق بها أحوال منافية وآثار مغايرة للتسوية الأوّلية، استقامة طبيعيّة تجري عليها في أطوار الحياة، كذلك لها بحسب الخلقة الأصليّة عقائد حقّة في المبدأ والمعاد وما يتفرّع عليها من أصول المعارف، وأخلاق فاضلة زاكية
ــــــــــ
(1) أمالي الشيخ الطوسي، شيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (المتوفّى 460هـ)، منشورات مكتبة الداوري، قم ـ إيران: ج1 ص290.
(2) الإتقان في علوم القرآن، مصدر سابق: ج4 ص159.
(3) المصدر نفسه.
صفحة 182
تلائمها ويترتّب عليها من الأحوال والأعمال ما يناسبها. قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَت اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم: 30)، وقال أيضاً: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس: 7 ، 8).في ضوء هذه الحقيقة القرآنية فللإنسان صحّة واستقامة روحيّة معنويّة، كما أنّ له صحّة واستقامة جسميّة صوريّة، وله أمراض وأدواء روحيّة باختلال أمر الصحّة الروحيّة، كما أنّ له أمراضاً وأدواءً جسميّة باختلال أمر الصحّة الجسميّة، ولكلّ داء دواء ولكلّ مرض شفاء، ولا يختصّ المرض القلبي والروحي بالمنافقين والكفّار، وإنّما يمكن أن يوجد في غيرهم من المؤمنين أيضاً؛ قال سبحانه: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً) (الأحزاب: 60)، وقال أيضاً: (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً) (المدثّر: 31).
وليس هذا المسمّى مرضاً إلاّ ما يختلّ به ثبات القلب واستقامة النفس، من أنواع الشكّ والريب الموجبة لاضطراب الباطن وتزلزل السرّ والميل إلى الباطل واتّباع الهوى، ممّا يجامع إيمان عامّة المؤمنين من أهل أدنى مراتب الإيمان، وممّا هو معدود نقصاً وشركاً خفيّاً بالإضافة إلى مراتب الإيمان العالية؛ قال تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (يوسف: 106)، وقال: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء: 65).
والقرآن الكريم يزيل بحججه القاطعة وبراهينه الساطعة أنواع الشكوك والشبهات المعترضة في طريق العقائد الحقّة والمعارف الحقيقيّة، ويدفع بمواعظه الشافية وما فيه من القصص والعِبر والأمثال والوعد والوعيد
صفحة 183
والإنذار والبشير والأحكام والشرائع، عاهات الأفئدة وآفاتها، فالقرآن شفاء للمؤمنين.ومن الواضح أنّ جعل القرآن شفاءً للأمراض القلبيّة والروحيّة هو الأصل؛ لذا قال عزّ وجلّ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ) (يونس: 57)، والمراد ممّا في الصدور هو القلب المعنوي، والوجه في ذلك هو أنّ الناس لمّا وجدوا القلب في الصدر وهم يرون أنّ الإنسان إنّما يدرك ما يدرك بقلبه وبه يعقل الأمور ويحبّ ويبغض ويريد ويكره ويشتاق ويرجو ويتمنّى، عدّوا الصدر خزانة لما في القلب من أسراره، والصفات الروحيّة التي في باطن الإنسان من فضائل ورذائل، وفي الفضائل صحّة القلب واستقامته، وفي الرذائل سقمه ومرضه، والرذيلة داء؛ يُقال: شفيت صدري بكذا إذا ذهب به ما في صدره من ضيق وحرج، ويُقال: شفيت قلبي. فشفاء الصدور وشفاء ما في الصدور كناية عن ذهاب ما فيها من الصفات الروحيّة الخبيثة التي تجلب إلى الإنسان الشقاء، وتنغّص عيشته السعيدة وتحرمه خير الدُّنيا والآخرة.
وهذا لا ينافي أن يكون للآيات القرآنية ـ ومنها هذه السورة ـ أثرٌ يرتبط بالبُعد المادّي والجسماني في الإنسان، كما صرّحت الروايات الكثيرة الواردة من طرق الفريقين في مواضع مختلفة، ومنها ما أشرنا إلى بعضها في ما مرّ، ودلّت التجارب الكثيرة على ذلك.
لا يُقال: إنّ الوجدان يقضي بخلاف ذلك حيث قد تقرأ هذه السورة المباركة على وجع سبعين مرّة ولا يحصل الشفاء، فكيف الجمع بينها وبين الأخبار المتقدّمة؟
فإنّه يُقال: إنّ مضمون هذه الأخبار وما يناظرها ليس هو ترتّب الأثر
صفحة 184
مطلقاً بلا قيد أو شرط، وإنّما هو من قبيل قوله تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: 60)، وقوله: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي) (البقرة: 186)، فكما أنّ الدّعاء لا يحقّق الإجابة إلاّ بعد تحقّق جميع الشروط وارتفاع عامّة الموانع، كذلك في المقام؛ من هنا قيل: إنّ هذه القضايا المستعملة في هذه المواقف كلّها في الاصطلاح طبيعيّة مهملة لا حقيقيّة عامّة، فإذا قيل (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) فليس معناه أنّ كلّ صلاة تكون كذلك ضرورة... وإنّما لها شروط خاصّة كما هو المحرّر عند أهله.